Sunday, February 28, 2016

حسين يخرج من كليرنس

حسين يخرج من كليرنس


2016-02-28

كنّا أوشكنا على بلوغ بوابة كليرنس، وتوغّلنا قليلا باتجاه أوّل منعطف على اليمين، رأيت حمامة سوداء بين سرب من الحمام الأبيض فتذكّرت الشّاعر المصيصي وشعرته السّوداء. قيل إن أبو الخطاب ابن عون الحريري النّحوي الشّاعر دخل على أبي العباس النّامي قال: فوجدته جالساً ورأسه كالثّغامة بياضاً وفيه شعرة واحد سوداء، فقلت له: ياسيدي في رأسك شعرة سوداء، فقال: نعم، هذه بقيّة شبابي وأنا أفرح بها ولي فيها شعر، فقال: أنشدنيه، فأنشدني:
رأيتُ في الرَّأْسِ شَعْرةً بَقِيَتْ سوداءَ تهْوَى العيونُ رُؤْيتَهَا
فقلتُ للبِيضِ إذْ تُرَوِّعُها باللّهِ ألاَ فارْحَمْنَ غُرْبَتَهَا
وقَلَّ لُبْثُ السوداءِ في وَطَنٍ تكون فيها لبَيْضاءُ ضَرَّتَهَا
ثم قال: ياابن الخطاب، بيضاء واحدة تروع ألف سوداء، فكيف حال سوداء بين ألف بيضاء.
في مايو حفلت مشاويرنا مع الوالد بأيّام رائعة معتدلة حنّت فيها الشمس على الطبيعة حنوّ المرضعات على الفطيم، فأهاجت مشاعر الوالد الذي ذكر فيها قول أبي عبادة البحتري الشّاعر:
أَتاكَ الرَبيعُ الطَلقُ يَختالُ ضاحِكاً مِنَ الحُسنِ حَتّى كادَ أَن يَتَكَــــــلَّما
وَقَد نَبَّهَ النَيروزُ في غَلَسِ الدُجى أَوائِلَ وَردٍ كُنَّ بِالأَمسِ نُــــــــوَّما
يُفَتِّقُها بَردُ النَدى فَكَأَنَّــــــــــــــــهُ يَبُثُّ حَديثاً كــــــــــانَ أَمسِ مُكَتَّما
وَمِن شَجَرٍ رَدَّ الرَبيعُ لِباسُــــــــهُ عَلَيهِ كَما نَشَّرتَ وَشياً مُنَمــــــنَما
أَحَلَّ فَأَبدى لِلعُيونِ بَشاشَــــــــــةً وَكانَ قَذىً لِلعَينِ إِذ كانَ مُحــــرَما
وَرَقَّ نَسيمُ الريحِ حَتّى حَسِبتَـــهُ يَجيءُ بِأَنفاسِ الأَحِبَّـــــــــــــةِ نُعَّما
ولمّا قرأت عليه قول حبيب الطائي:
رقّت حواشي الدَّهر فهي تمرمر وغدا الثّرى في حليه يتكسّـــــر
نزلت مقدمة المصيف حميــــدة ويد الشّتاء جديدة لا تكفـــــــــر
لولا الذي غرس الشّتاء بكفّــــه لاقى المصيف هشائما لا تثمــر
كم ليلة آسى البلاد بنفســـــــــه فيها ويوم وبله مثعنجـــــــــــــر
مطرٌ يذوبُ الصّحو منه وبعــده صحوٌ يكاد من الغضارة يمطــــر
غيثان فالأنواءُ غيثٌ ظاهــــــــر لك وجه، والصّحو غيثٌ مضمـر
وندى إذا ادهنت لمم الثّــــــــرى خلت السّحاب أتاه وهو معــــــذر
فاستحسن الأبيات وطلب منّي إعادة قراءتها.
ثمّ وقف برهة وقال يخاطبني: حدث في مجلسي ذات يوم أن استبدّ الغضبُ برجلٍ يدعى حسين من نجد، واشتكى من اثنين من المسؤولين اللذين لم يسعفاه في شأن من شؤونه، كان المجلس يحفل بحشد كبير من الناس قال الوالد، وكنّا بصدد تناول وجبة الغداء، وكلّما حاول البعض تهدئته زاد صخبه.
وفي مساء ذلك اليوم، جاءنا تكليف بمهمّة إلى لندن، وكان عليّ السّفرُ رفقة صاحبي عبد الرحيم.
وبعد ساعات فحسب كنّا بصحبة أحمد العبيدلي وبعض أصدقائه في فندق ماكدونالد في مارلو فس غرب لندن، في مكان يشرف على نهر التيمز وانحاناءاته الباذخة، واتّخذنا مجلسنا على مقربة من شلّال ينحدر منه الماء عذباً فراتاً، بينما يمتدّ لسانٌ مائي في القاعدة حيث تقع طاولتنا.
تطلّع عبد الرحيم إليّ، وقد سحره ذلك المنظر البهي وقال: سبحان الله يا بو محمد، هل يصدّق المرء أنّ بين مجلس الأمس ومجلس اليوم يوم واحد؟
قال ذلك والدهشة ما زالت تتملكّه، ضحك الوالد من كلّ قلبه، ولعلّه قال لصاحبه ليس لحسين سبيل على أحد في مارلو.
أفكّر الآن بما كنتُ عليه عندما كان والدي في مجلس مارلو مع صاحبيه؟
أفكّر بالفتى الذي كنته، وبانشغالات تلك السّنّ حيث يفصلني عن أبي في
لحظة مجلسه تلك بلدان جمّة لم أتمكّن بعد من ارتياد بعضها.
وقبل سنوات، وكان ذلك في عام 2007، اتّخذت ذات مجلس والدي في مارلو، وكان الشّلال لا يزال كما عهده والدي عذباً فراتاً، ولا يزال اللسان المائيّ يتوغّل قرب الطاولة، ولا يزال التايمز كالزمن السّرمد.
طارت قبيلة الحمام الأسود، ومكثت الحمامة البيضاء، قليلا، كانت تحدّق في عائلة أشجار الدلب.
خفقت بأجنحتها والتحقت بقبيلتها السّوداء على عجل وكأنّ صراخ حسين اخترق حجاب أربعين سنة قبل أن يعكّر صفو باله.

No comments:

Post a Comment