Sunday, May 8, 2016

هندرسون .. ذكرى الأيام الأولى



قرأت على الوالد ونحن نسير في جنائن "الريجنت" في أوّل أيّام الزبرة رسالة السيد "دي. اف. هولي" موظف دار الإعتماد في دبي بتاريخ 10 مايو 1959، وهي تنصّ على أنّ زيارة الشيخ/ راشد بن سعيد آل مكتوم، المرتقبة إلى لندن ستكون من 8 إلى 21 يونيو هذا العام وأنّ محل إقامته سيكون فندق "السافوي"، وسوف يصل المملكة المتحدة عن طريق أمستردام، وهو ينوي أن يصطحب معه ولدين من أبنائه هما (مكتوم) و(حمدان)، إضافة إلى عيسى القرق الموظف في البنك البريطاني -إذا سمح له البنك-، ومهدي التاجر العامل في الجمارك -إذا أمكن إعفاؤه من مهامّه الجمركيّة-، - وهو أمر صعب قليلاً-. وأضاف "هولي" أنّه فيما أراد الشيخ أن يمدّد الإقامة أكثر، فعليه أنّ يتحمّل النفقات، وأشار إلى أنّ شركتي "جراي ما كينزي" و"هالكرو" عرضتا استضافة الشيخ وفريقه، وأنّ الشيخ أبدى ولعه برؤية العروض العسكريّة.
قال "إدوارد هندرسون" - الذي عمل معي في المجمّع الثقافي- في كتابه ذكريات عن الأيّام الأولى في دولة الإمارات وسلطنة عمان:
كان الشيخ راشد ذا شخصية آسرة، بأنفه الشامخ وعينيه اليقظتين ولطفه الهادئ، ووقاره البعيد عن التكبر، وكان يرتدي دائماً (غترة) قطنية بيضاء، وعقالاً يثبتها في مكانها، ودشداشة طويلة تعلوها عباءة (بشت) سوداء تزينها من الأمام حافتان رفيعتان مذهبتان، ونعلاً من صنع دبي .
ولم يكن الديوان يخلو من بعض أفراد الرعية وهم في ثياب مماثلة، وكان بعضهم تجاراً وبعضهم من الحاشية، وغيرهم من الزوار، وآخرون من موظفي القصر.
وكان حضور الشيخ يفرض عليهم الأحترام والهدوء. لكن الأمر لم يكن يخلو من حركات رزينة. أما أذا تحدثوا فيما بينهم، فإنهم كانوا يفعلون ذلك بصوت منخفض . لأن احترام الشيخ لم يكن يعني توقف الأشغال، بل استمرارها، وهو ماكان الشيخ يريده. بل أنه كان يساعد بحماس أياً من رعاياه على تحسين مستوى دخله.
في تلك الأيام كان العديد من رعاياه قد أصبحوا أثرياء، لكن لم يكن لديهم أموال سائلة، لأن أموالهم كانت دوماً قيد الأستثمار.
ولم تكن مقابلة الشيخ تحتاج إلى أكثر من الذهاب إلى مركز الجمارك صباحاً، وصعود الدرج الحاد الضيق، وغير المنتظم، الذي ينتهي في أعلاه بشرفة مستوية عريضة مكشوفة، تطل على الخور. وإلى جانب الشرفة، كانت هناك غرفة مزدحمة، مفروشة بالسجاد والأرائك فقط ، عارية الجدران، ذات نوافذ خشبية كبيرة، مفتوحة المصراعين ... كان هذا مجلس الشيخ راشد -الصباحي-، حيث يجلس أربعون أو خمسون شخصاً على السجاد كتفاً إلى كتف، متكئين على الوسائد المستندة إلى الجدران، ناظرين عبر الباب أو النوافذ إلى الخور .
كان ينبعث من المجلس دائماً صوت حديث متواصل، ولم يكن يقطعه حتى قيام الشيخ لاستقبالك، وعندها، كان الشيخ بقامته الطويلة، المنحنية قليلاً يتقدم نحوك بيد ممدودة وابتسامة حارة، فيصحبك - إذا اراد الحديث معك على انفراد - إلى غرفة أصغر حجماً، تطل على الخور، ويقتصر أثاثها على سجادة فارسية حمراء وبعض الوسائد .
بعد فترة على معرفتي بالشيخ راشد، وصل الهاتف إلى دبي . وبعدها كان المرء يرى أنه من اللياقة إبلاغ الشيخ مسبقاً بزيارته. وكان الأمر ببساطة يعني أن تأخذ من أحد أتباعه رقم الهاتف الذي يكون بجانبه في تلك اللحظة. وكان يرد بنفسه على الهاتف، قائلاً أهلاً..أهلاً يسرني استقبالك.
لكننا في تلك الأيام الأولى، لم نكن قد حظينا بعد بالهاتف . ولذا كان على المرء أن يقوم بالزيارة بدون سابق انذار. وما أن نجلس في الغرفة الصغيرة، حتى نبدأ الحديث، ونحن نشرب القهوة بالفناجين الصغيرة متفرجين على منظر الخور البهيج أمامنا، والماء يتراقص بلونيه الأزرق والفضي حول الزوارق الصغيرة المتحركة في كل الأتجاهات.
بطبيعة الحال، كان لابد من البدء بالأسئلة التمهيدية: كيف صحتك؟ وكيف صحة الأهل في البلاد؟ وكم دامت رحلتك؟ إذا كنت قد وصلت جواً، وعساك استمتعت بالرحلة؟ كانت هذه الأسئلة توجه بلطف واهتمام واضحين . لكنه كان من الواضح أيضاً أن هذه الأسئلة التمهيدية – التي كانت تستغرق تلك الأيام في أجزاء أخرى من الخليج نصف ساعة، أو الجزء الأكبر من الزيارة – لم تكن إلا نوعاً من الواجب، وأن الأثنين يريدان انجازه بأسرع ما يمكن.
فقد كان الشيخ راشد واحداً من أولئك القادة الرواد في ترسيخ النموذج السائد الآن للاجتماعات العملية القصيرة التي أصبحت تميز الخليج اليوم.
بعد قليل من الزمن، ينطلق صوت الشيخ منادياً -قهوة- . لكن هذا لايعني أنه يتوقع منك الأنصراف، كما هو الحال أحياناً مع ضيوف آخرين.
تأتي الفناجين الصغيرة لنتجرّعها بسرعة، ولتملأ مرة ثانية بسرعة أيضاً . ثم يسأل الشيخ سؤالاً وجيزاً ، قد لا يكتمل أحياناً، وقد يكون محيّراً أحياناً أخرى، حول الموضوع الذي تنوي بحثه، والذي كنت تفترض أنّه لايعلم شيئاً عنه ، وهو افتراض ربما يثبت عدم صحته.
فاذا فرغت من الحديث حول القضية التي جئت من أجلها، أعطاك الشيخ رأيه مغلفاً ببعض الغموض، وبالمرح أحياناً، وبطريقة تريك مدى إطلاعه على الأمور. وربما لايترك رأيه مجالاً لمزيد من الحديث حول الموضوع.
وغالباً مايتم تبادل الآراء حول الأحداث الراهنة، وعندها يدلي الشيخ بسيل من التعليقات، تتميز أحياناً بدقة بالغة، وبتفسيرات ممتعة، عمّا كان البعض يعني حقيقة عندما قال مانسب إليه .
وقد لايكون من السهل متابعة كل ذلك لأن الشيخ كان يتحدث بعجلة لكثرة المواضيع المثيرة التي تنتظر رأيه.
وفي أحدى المرات، وبينما كنت اراقب تعابير وجهة ، ومياه الخور المتراقصة وراءه خيّل إلى أن الامر يشبه الحديث إلى لوحة تعبيرية، فحديثه المندفع كسلسلة من اللمسات البارعة، التي تبدو كما لو كانت غير مترابطة، يعطيك في النهاية صورة متلألئة وكاملة. إلا أنه، وعلى الرغم من تلهفه للانتقال إلى الموضوع التالي، كان يعيد بسرور جملة ما ، مستخدماً كلمات مختلفة، إذا ما اعترفت بأنك لم تفهمه.
وعندما نظرت ذات مرة إلى الشيخ نظرة استفسار بعد أن طرح عليّ سؤالاً سريعاً ، فإن ساقي القهوة الذي كان لحظتها يناولني فنجاني، قال بالعربية مفسّرا بحدّة : حسناً ، هل تستطيع القدوم إلى العشاء هذا المساء؟. ولذا فإنه من المفيد جداً أن يبقي المرء متيقظاً أثناء حديثه مع الشيخ راشد .
كان كثيرون يدخلون المجلس للحظات، فيهمسون شيئاً في أذن الشيخ ، ثم يتلقون ما كان يبدو لي غالباً تعليمات لم أكن أفهمها. فبالنسبة لي، وباستثناء تلك الدعوة الغامضة للعشاء، أعتقد أنّ الشيخ راشد لم يقل لي شيئاً لم أفهمه. إلا أنّني نادراً ماتمكنت من متابعة الحديث المتبادل بين الشيخ وحاشيته. ولم يكن ذلك نتيجة أن جزءا من السؤال كان همساً، بل بسبب اللغة المليئة بالتلميحات وبالأشارات التي لاتعني شيئاً للزائر، والتي كان يستخدمها للتفاهم المتبادل مع أتباعه.
كان رجال الحاشية يجيئون ويذهبون. وكان العمل التجاري، الذي أصبحت قيمته فيما بعد بمئات ملايين الجنيهات، يولد بهزّة رأس أو بغمزة فالإشارات والألغاز اللفظية التي تستخدم في قاعات المزادات، تبدو متواضعة وبطيئة مقارنة بطريقة تصريف الأمور المالية والرسمية في بلاط الشيخ راشد. ولذا كان العاجزون عن متابعتها يسقطون، لأنّ البقاء هنا كان للأسرع والأذكى والأوسع خيالاً.
لقد شاهدت الشيخ راشد خلال اجتماعات مغلقة مع بعض رعاياه بشأن مواضيع تهمه ويراها ضرورية. فأخذ أحد الموجودين، وكان معروفاً بفهمه البطئ، يتحدث بلهجة رنانة.. وبعد أربع دقائق رفع الشيخ راشد عينيه إلى السماء، كما لوكان يبحث عن النجدة. كانت عيناه لحظتها تلمعان، وكان السأم يرتسم على ملامحه، ثم ما لبث أن مسح وجهة بيديه وكأنه يقول - أعاننا الله -.
لكنه لم يكن أبداً يخرج عن صمته، حتى يقول الجميع كل مالديهم، وعندها كان يبدو عليه الارتياح الشديد، ثم يتحدث بإيجاز وبصورة مباشرة، مختتماً الموضوع. أمّا اذا شعر بأن المناسبة مزعجة، فإنه كان يوعز لأحد الحاضرين بأنّ ينوب عنه في الحديث. وكان كلامه الختامي من النوع القاطع، وبعدها كان يخرج مسرعاً من الغرفة، قبل أن يدرك أحد ماحدث. فهذا عمل وهكذا كان يجري تصريف الأعمال في دبي.
 

No comments:

Post a Comment