Friday, June 10, 2016

محمد علي، ورنينُ الطفولة



قلت للوالد ونحن نقطع جنائن "الريجنت" في نزهتنا اليومية: متى رأيت الملاكم ‫#‏محمد_علي_كلاي‬ لأول مرة؟.
قال: حدث ذلك في عام 1966م في القاهرة في العام الذي تخرجت فيه،
في ذلك اليوم -قال الوالد- قصدت قاعة الفطور في فندق "هيلتون القاهرة"، فرأيت رجلاً وحيداً يتناول الفطور على طاولته.
وكان ذلك الرجل محمد علي.
وكان ذلك شبيهًا بالناقوس الذي واصل رنينه في طفولتي
فما زلت أتذكر ونحن في الطابور الصباحي في مدرسة محمد بن القاسم، وكان ذلك في يوم 8 مارس من عام 1971م، عندما نزل علينا خبر هزيمة محمد علي (الملاكم المسلم) نزول الصاعقة، بالرغم من أننا لم نكن شاهدنا مباريات له من قبل، ولكن طالما سمعنا عن ذلك الملاكم الذي اعتنق الإسلام، وصار يذود عنه بقبضاته في الجهة الأخرى من الأرض.
ولا أستبعد أن المصلين انتظموا في المساجد وسووا صفوفهم للدعاء له ليفوز على "فريزر"، الذي أصبح في فترة لاحقة من أعز أصدقاء محمد علي.
ولمّا دعي إلى زيارة أبو ظبي، ووصلها في عام 1972م - وأتذكر أننا قابلناه-، وكان يتوعد كلما حانت فرصة بالانتقام من "فريزر".
ومن يومها، لم تفتني أياً من مبارياته، ومكثتُ أتابع مباريات الأوزان الثقيلة حتى آخر أيام دراستي في الولايات المتحدة، ومن ثم اعتزلت هذا العالم بعد اعتزال تلك الكوكبة اللامعة من الملاكمين.
كان رجلاً إشكالياً وعميقاً ، فهو في لحظة ما، عندما كان التمييز قائماً كانت الملاكمة بحسب توصيفه: مشاهدة الرجل الأبيض لإثنين من السود يبرحان بعضهما البعض بالضرب.
في تلك البرهة، لم تكن الملاكمة تمثّل أكثر من هذا الأمر، وكان توصيفه خطاباً عميقاً يستبطن واقع التمييز ويحاول كشفه بهذه الطريقة التي مازلنا نستعيدها منذ عقود.
كما أنه حدس أن الملاكمة التي شرع بها أول الأمر في طفولته ليتمكن من الدفاع عن نفسه واستعادة دراجته التي سرقها صبي صغير، منحته تلك القوة ليرفض السفر آلاف الأميال إلى فيتنام ليقاتل أناسا لا يعرفهم ولم يطلق عليه أحد منهم لقب الزنجي، وكان رفضه الذهاب عن مبدأ، ولقد أثبتت النتائج اللاحقة التي حفرت عميقا في وجدان الشعب الأمريكي ومؤسسته العسكرية أن محمد علي كان على حق،
فلقد أدركت أمريكا ورطتها ولم تنج من تبعاتها حتى الآن.
لقد كان بطلاً في الحياة، وفي الحلبة، وبطلاً في الحقوق المدنية والعدالة الاجتماعية ومناهضاً كبيراً للحروب. وهو الأمر الذي دعاه إلى تغيير اسمه إلى "كاسيوس إكس" انحيازا إلى صديقه "مالكوم إكس" الذي دعا إلى ضرورة توفّر الأمريكان من أصل أفريقي على حقوقهم المدنية.
وعندما أعلن إسلامه غيّر أسمه إلى محمد علي، ودعا الجميع إلى نسيان اسم كاسيوس لأنه تذكير بالعبودية.
كان بطلاً فعلياً، ومن غير المنصف إطلاقاً أن نعتبره ملاكماً فحسب، كما ذكر صديقه وغريمه فورمان، وأردف: إنه أفضل الناس في عصره.
لقد استفادت الملاكمة كرياضة للفن النبيل من مواهب محمد علي وسرعته ورقصه ولكمته التي كانت قوتها تقدّر بألف باوند، لكن الجميع وخصوصاً أبناء جلدته استفادوا من إنسانيته بصورة أكبر وأكثر تأثيراً بكثير.
ربطت محمد علي بدولة ‫#‏الإمارات‬ العربية المتحدة وقادتها، علاقة وطيدة منذ أن دخلها أول مرة، ولقد تردد عليها مراتٍ عدة منذ بداية السبعينات في الفترة التي كان يتهيأ فيها لاستعادة لقبه الذي كان قد خسره قبل مدة وجيزة من ذلك التاريخ أمام "فريزر"، وكان المغفور له الشيخ ‫#‏زايد‬ بن سلطان آل نهيان قد كرم محمد علي لدى زيارته الدولة، وتواترت زياراته منذ ذلك الحين، فزار أبو ظبي مرة أخرى في ديسمبر 1982م، وكان المرة الأخيرة في يناير 1987م، حيث أجرى عدداً من المباريات الاستعراضية في ‫#‏أبوظبي‬ و ‫#‏دبي‬.
وترك هذا التكريم عظيم الأثر لدى محمد علي، الذي عبر عن ذلك خلال ندوة في أميركا، قال فيها إن الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله عامله كأخ، وإن شعب الإمارات تعامل معه كشقيق لهم، من غير اعتبار للون أو الأشياء الأخرى التي يعاني منها في بلاده أميركا.
قبل أيام جمعني حديث مع شقيقي الأخ / ناصر، واستعاد زيارة محمد علي إلى أبو ظبي، وكان قد مر قرابة العام على طابورنا المدرسي الحزين، فقد خلالها "فريزر" بطولة العالم أمام عاصفة جديدة اسمها (فورمان)، ولم يكن فورمان هذا يمنح منافسيه نعمة الوصول إلى الجولة الرابعة إلا بعد أن يكونوا فريسة سائغة أمام قبضته الجبارة.
أخبرني الأخ /ناصر أنّ صورة في صباه يبحث عنها تجمعه بمحمد علي وهما يتبادلان اللكمات في الوجه.
وبعد قرابة عقدين من الزمن التقاه ثانية في "طوكيو" وكان ذلك في عام 1992م، فلقد قابله متعهد مباريات محمد علي (دون كنج) ودعاه إلى زيارة محمد علي في جناحه في الطابق العلوي.
وأردف الأخ / ناصر أنّ زوجة محمد علي هي من فتحت الباب ودعته إلى الدخول، وكان الجناح متوسط المساحة، ثم خرج محمد علي بخطى متباطئة واستقبله بحرارة، وعرّفه بنفسه، وبذكرى تلك القبضات المتبادلة عندما كان لا يزال يتوعد "فريزر" بأيام لا تبقي ولا تذر.
ثم دعاه إلى زيارة مركزه الخيري في "لوس أنجلوس"، والتقط معه الصور التي انتشرت في الأيام السابقة بعيد وفاته على مواقع التواصل الاجتماعي.
في الأيام الماضية وأنا استعيد لحظات محمد علي بدءاً من طابور الصباح مروراً بمعركة الأدغال ونزال القرن وطرائفه التي يرسلها بعمق ودراية، حتى إصابته بمرض الرعاش، ولقد رأيت صورة له وهو في أيامه الأخيره، وكم هالني أن أجد الهرم
وقد تمشّى في جسده الذي كان مفتولا وقويا، وبحسب محمد علي ذاته (طويلاً ووسيماً وشاعراً).
جسد الرجل الذي لم يكن هناك على كوكبنا من يستطيع مواجهته، وهو ليس في سنّ متقدّم، إنها سنّ مبكرة بالنسبة لرجل كان يعد مثالا للكمال البشري، ثم قلت في نفسي ياله من كمال دفن علامات هرمه وأمراضه في كتاب مخبوء عميقاً في جسده.
هذا هو الخلل الذي ورثه وحمله في شيفرته الجينية، وهو الذي يحدّد ما إذا كان بوسع المرء أن يبلغ هذا السنّ وهو معافى، أو يبلغه وقد تداعى جسده.
إنه كتاب هائل لم يكن بوسع محمد علي أن ينبش في صفحاته ليدرك علله ويتمكن من تجنبها، فالثلاثين مليون صفحة التي يشتمل عليها الكتاب الجيني أضمرت لمحمد علي مفاجأة غير متوقعة وجعلته يترجّل في مثل هذه السنّ، ولكنّ حسبه أن عاد من الأدغال ظافراً.
  http://www.electronicvillage.org/mohammedsuwaidi_article_indetail.php?articleid=122

No comments:

Post a Comment