Tuesday, July 12, 2016

أنقرة - 1942



قال كامل مروّه: « كانت حياتنا في أنقرة على وتيرة واحدة، تسير سيرها الطبيعي بلا انحراف ولا نشوز، كعجلات القطار، ومع ذلك فقد اضطربت أنقرة ذات يوم واهتزت على غير عادتها، واكتسبت بين عشية وضحاها حُلَّة الهرج والمرج.
ففي صباح الثاني والعشرين من حزيران/ يونيو 1941م أي بعد وصولنا بعشرة أيام، هاجم الجيش الألماني روسيا.
وإذا بالنبأ يسقط كالصاعقة على "أنقرة" فيوقظها من جمودها ويبعث فيها تلك الرعشة التي لم تفارقها حتى يومنا هذا.
كان ذلك اليوم على ما أذكر يوم أحد، وقد بقيت غارقاً في الن...وم حتى الساعة العاشرة، ثم خرجت لتناول الفطور فرأيت نائباً "تركياً" معروفاً من نزلاء الفندق مستنداً على الباب واجماً، وكنت أعهده مشرق الوجه دائم الابتسام، فسألته عن سبب وجومه، فأجاب:
- ألا تعلم؟
قلت: كلا، لا أعلم .. ولكن ما تريدني أن أعلم؟
- لا شيء … لا شيء فعلاً، سوى أن الألمان بدءوا فجر اليوم هجومهم على روسيا.
إذن فقد وقعت الواقعة التي تحول وجه الحرب من أساسها، وتقلب كل حساب فيها رأساً على عقب.
ورحت بدوري أتأمل وأفكر ثم قلت له:
- وماذا تخشى بلادكم من هذا الهجوم؟
قال: هذا الهجوم بلاءٌ علينا من جميع الوجهات والجهات، إنّه نهاية حيادنا.
قلتُ: أتعتزمون إذن الدخول في الحرب إلى جانب الروس أو الألمان؟
قال: كلا، لا أعني ذلك، ولكنني أعني سياستنا ستصبح بعد اليوم "
" الحرب بين الدولتين، تسير حسب سيرها، فتفقد بذلك استقلالها.
وراح الرجل يوضح رأيه. فقال إن مصلحة تركيا تتعارض مع مصلحة الدولتين فإذا ما فازت ألمانيا على روسيا سيطرت "برلين" على "انقرة" وفرضت عليها إرادتها كما تشاء، وإذا ما فازت روسيا فعلت "موسكو" الأمر عينه.
قلت: وماذا تريد إذن يا حضرة النائب؟
قال: أريد أن تستمر الحرب بين الدولتين إلى ما شاء الله، أو تنتهي بصلح فيما بينهما. أما إذا انتهت بفوز إحداهما على الأخرى فإن التوازن في الشرق كله يضطرب، فتكون نهاية الحرب بين روسيا وألمانيا بداية وجع الرأس لنا، ومن يدري عندئذ المصير؟ .. نحن لا يهمنا دخول "إنكلترا" و"ألمانيا" الحرب بقدر "روسيا" إنّ تاريخ تركيا - منذ ثلاثة قرون- مقيد بتاريخ روسيا؛ فلم ندخل حرباً إلا ضد روسيا أو بسبب روسيا أو من أجل روسيا، لقد حكم وضعنا الجغرافي علينا أن نكون السد الوحيد الذي يمنع روسيا من التوسع نحو البحار الجنوبية، لذلك كنا –ولم نزل– نتأثر بسياسة "موسكو" قبل كل شيء، وأؤكد لك أننا لم نشعر بأي قلق خاص عندما وقعت الحرب بين ألمانيا، وإنكلترا، وفرنسا.. ولكن دخول روسيا الحرب يؤثر علينا في الحاضر وفي المستقبل تأثيراً مباشراً، ويجعل مصيرنا مرة أخرى في كفة القدر.
ولَحَظ على شفتي ابتسامة تنم عن اعتقادي بمغالاته بالتشاؤم فقال:
- لا تضحك يا صديقي، كلنا في الهواء سواء، إنّ المدفع الذي انطلق صباح اليوم في "بنسك" و"لفوف" قد نسف الطمأنينة والاستقرار لا في شرق أوروبا فحسب، بل في الشرق كله، وبلادكم في المقدمة، فنحن نؤثر عليكم كما تؤثر روسيا علينا».
كم كان "النائب التركي" مصيباً في آرائه يومئذ، فالاستقرار الذي نسفته الحرب الألمانية - الروسية هَزَّ بزواله الشرق بأسره، فانتشر القلق كانتشار بقع الزيت. وما (أذربيجان وإيران)، و(قارص وأردهان)، و(المضايق واليونان)، والوصاية على ليبيا، والمعاهدة المصرية، والجلاء عن سورية ولبنان، إلا صدى لتلك القنبلة الأولى في صباح 22 حزيران/ يونيو من العام 1941م.
 

No comments:

Post a Comment