Monday, November 28, 2016

أبوعمر في الجو .. وطائراته على الأرض



 

في إطار احتفاء القرية الإلكترونية - أبوظبي- باليوم الوطني لدولة الإمارات العربية المتحدة، نهدي قراء الصفحة الكرام، بهذه المناسبة الميمونة، مقالة «أبوعمر في الجو .. وطائراته على الأرض»، من كتاب «غفوة عند الذئاب» للكاتب والمفكر الإماراتي #محمد_عبيد_غباش ، وذلك ضمن مشروعنا المتجدد #مائة_موقع_في_الإمارات
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
"أبو عمر في الجو.. وطائراته على الأرض"
قضينا ليلة جميلة وسط الجبال. عندما حاولنا العودة في اليوم الثاني اكتشفنا أن سيارتنا القديمة ذات الدفع الرباعي لا تعمل. استنجدنا بصديقنا "أبو عمر" الخبير في ميكانيكا السيارات. وصل إلينا بسرعة الجن كما لو كان مقيماً في الجوار. رفض أن يجرّ السيارة قائلاً إنه سيحاول إصلاحها أولاً. بعد دقيقتين أطلق ضحكة تردّد صداها في الجبال حولنا. اكتشف "أبو عمر" أن العيب لم يكن في السيارة بل فينا نحن الذين لم نكتشف خلو المحرك من الزيت. فتش "أبو عمر" سيارته وسيارتنا، ولما لم يجد زيت محركات بحث في أطعمة الرحلة وأغراض الطبخ، فوجد الحل في زيت الذرة. لم يخطر ببالي في تلك اللحظة أن "أبو عمر" الذي أنقذنا للتوّ، كان يحضّر مشروعاً خطراً وسط تلك الجبال، أو بشكل أدق فوقها.
بعد شهر دعاني "أبو عمر" للقائه في المطار القديم. باعتزاز أشار إلى طائرة صغيرة مستعملة اشتراها قبل مدة. اقترح أن نطير إلى مدينة رأس الخيمة لتناول الشاي ثم العودة. كانت التجربة مثيرة، إذ طرنا على ارتفاع منخفض ورأينا السيارات تحتنا بوضوح. وبعد وقت قصير هبطنا بسلام على مدرج مطار رأس الخيمة.
ما إن لامست أقدامنا الأرض حتى لاحظنا بقربنا طائرة أخرى، وقد ترجل منها 4 رجال أجانب بوجوه محمرّة وكأنهم قد خرجوا من حمام ساونا. أخبرونا أن طائرتهم كادت تسقط بهم بسبب عاصفة عنيفة ضربت الساحل الشرقي، حيث كانوا يطيرون.

بعد تناول الشاي في مقهى المطار ركبنا الطائرة مجدّداً. لاحظت أننا تحوّلنا عن طريق العودة لـ"دُبي" واتجهنا ناحية الجبال شرقاً. ذكّرته بتحذير الأجانب لكنه قال:
-الإنجليز يبالغون في الأخطار. اعتمد عليَّ! الأمور طيبة.
لم أشك بنيَّات على الرغم من أنني كنت أتذكّر أن رجال خفر السواحل عثروا عليه ذات مرة في زورق صيد دون وقود، وفي مرة أخرى كاد يقع بيد الإيرانيين لدخوله المياه الإقليمية من دون إذن. بدأت المشكلة بصوت يشبه الانفجار، ثم ارتجاجات في الطائرة، عندما التفتُّ ناحية "أبو عمر"
أدركت على الفور أننا في ورطة. وعلى رغم الهواء البارد أخذ العرق يتصبب منه، وارتسم الذهول فوق وجهه. حاولت الكلام معه لكنه كان في ملكوت آخر.
يا للهول!
أمست طائرتنا في فم العاصفة. في لحظة كنا نهوي سريعاً نحو قمم الجبال. وفي لحظة أخرى نصعد عالياً فوق السحاب. ولبعض الوقت انقلبت الطائرة على ظهرها فإذا بالجبال فوقنا والسماء تحتنا. في تلك الدقائق شعرت بقرب نهايتنا. تملَّكني الرعب حتى راودتني فكرة إلقاء نفسي من الطائرة لأموت سريعاً. وحالما تركنا الجبال وراءنا وصرنا نطير فوق البحر سألته إن كان ممكناً أن أرمي بنفسي في الماء. استيقظ الطيار المستغرق في ذهوله ليقول: ستموت من الصدمة.
أخيراً أحكم السيطرة على آلته وناورها عائداً إلى اليابسة، وتذكّر مدرج مطار قديماً مهجوراً كانت القوات البريطانية تستخدمه أيام الاستعمار. ما إن حطت الطائرة حتى سارعت بالخروج منها. كان لمس اليابسة تحت قدمي هو أجمل شعور مرّ عليَّ طوال عمري. حمداً لله أن لطف بنا وأعادنا لأمّنا الطيبة. هذه الأرض الحنون بأبنائها بعد أن رأيت ما يمكن للسماء أن تفعله بنا ونحن دون ريش ولا أجنحة. اجتاحني طوفان من الغضب، فوددت لو كان عندي بنزين لأشعل النار في كتلة الخردة القديمة هذه.. تمالكت أعصابي، وأدركت أن اللوم لا يقع على الطائرة ولا على الطيَّار. اللوم يقع عليَّ وحدي لأنني وضعت نفسي على ارتفاع خمسة آلاف قدم في الهواء تحت رحمة شخص متهوّر. بادرني بابتسامة كبيرة:
-هل كنت تحلم بهذه المغامرة وأنت ذاهب لشرب الشاي في رأس الخيمة؟
انهلت عليه باللوم فابتسم معتذراً وقال:
-أحياناً الفضول يدفع إلى المخاطر.
-لكنهم حذَّرونا من العاصفة.
-لا تغضب يا أخي! الحمد لله انتهت الأمور على خير.
كانت فكرة العودة بالطائرة مستحيلة. لذا بدأ "أبو عمر" يمارس لعبة نفسية إزاء قراري العود بسيارة تاكسي. أخذ يتصل بمراكز الأرصاد يسأل عن وضع العاصفة الجوية، ولما سمع أن العاصفة قد هدأت أخذ يؤكد أن الظروف مواتية للطيران. ركبت الطائرة مجدّدًا كالمنوّم مغناطيسيا. لطف الله بنا فعلاً وطرنا في سماء صافية. بالكاد أتذكر رحلة العودة بالطائرة وبالسيارة من المطار إلى بيتي. حلم مبعثر كالزجاج المحطم.
ما حدث تالياً كان هو الأغرب. فالصدمة استمرت معي لبعض الوقت. إضراب عن الطعام أنقص وزني بشكل كبير. وخوف من النظر من نوافذ المباني.
وماذا عن رفيق الرحلة؟ سعيت جاهداً ألا ألتقيه، وألا أرد على مكالماته الهاتفية. بل كنت أتجنّب المرور على الشوارع بين بيته وعيادته حتى لا أصادفه. أردت نسيان التجربة لكنها أبت أن تفارق تفكيري، لأنني، ولعامين تاليين لم أستطع ركوب طائرة. إضراب عن السفر.
لم يعتبر صاحبي من التجربة، بل تمادى في المخاطرة. أقنع مجموعة من معارفه بشراء 4 طائرات ركاب قديمة أسس بها شركة طيران لنقل الركاب والبضائع بين دبي ومناطق تتجنبها الشركات الأخرى بسبب الحروب كالعراق والصومال. لسوء حظ "أبو عمر" وشركائه، وبعد 6 أشهر من العمل، صدر قرار دولي يمنع طائراته الأربع من السفر، ولذلك بقيت واقفة في مطار العاصمة الأردنية لعدة سنوات على أمل أن يتم الترخيص لها لمعاودة العمل.
مع ذلك يفاجئني "أبو عمر" أنه، ورغم كل شيء، كمثل كل عاشق، ليس نادماً على شيء. لو يعود الزمن للوراء فلن يغيّر من سلوكه المخاطر ذرة واحدة. وماذا عن الطائرات الجاثمة على الأرض؟ ماذا عن الدّيون؟ يتقبّل "أبو عمر" المشكلات كقدر، ولا يتوقف لحظة عن لوم الهيئات المختصة التي تبالغ في إجراءات السلامة. لسان حال "أبو عمر": أولسنا نخاطر منذ اللحظة التي نترك فيها بيوتنا في الصباح؟ أليس هناك خطر في الطرقات؟ أو ليس هناك خطر المرض على الأرض من الهواء الحامل للفيروسات؟ فما المشكلة إذن في بعض المخاطرة في أقاصي السماء؟

No comments:

Post a Comment