Wednesday, December 21, 2016

هل تعرف ماهي منزلة قلب العقرب؟




ندعوكم للتعرف معنا على منزلة «قلب العقرب» من مشروعنا الجديد #منازل_القمر للشاعر والمفكر الإماراتي #محمد_أحمد_السويدي
ونعرض هنا تباعا ًالثماني والعشرون منزلة التي ينزلها القمر كل عام قوامها ثلاثة عشر يوماً لكل منزلة، عدا جبهة الأسد أربعة عشر يوماً، ما يجعل السنة 365 يوماً تمثل التقويم الشمسي للعرب.
---------------------
القَلب: 20 كانون الأول (ديسمبر) – 1 كانون الثاني (يناير)
اليوم يبدأ طالع "القَلبُ"وهو"قلبُ العقرب"، وثاني مَرْبعانية الشِّتاء،"(أربعينيَّة)، ثاني منازل الشِّتاء، وثاني العقارب،، ورابع المنازل اليمانيَّة، وطالعه في العشرين من كانون الأول (ديسمبر)، ومدَّته ثلاثة عشر يومًا.
وهو نجم أحمر مضيء، مضطرب، وراء "الإكليل"، قريب من" الجَبْهة"، بين نجمين خفيَّين، تسميهما العرب" نياطَي القلب"، أي: علَّاقتيه.
و"نياطا القلب" نجمان خفيان، والقلب في وسطهما، وهو خارج عنهما إلى الشمال. و"الشَّوْلة" ذنبه، والنجوم التي على طرفها؛ جبهته،أمَّا إبرته فلطخة مستطيلة فيما بين "الشَّوْلة" و"النَّعائم الصادرة".
وسمَّاه أصحاب الصور ممن رسموا قبَّة السَّماء " قلبًا" لوقوعه موضع القلب من صورة العقرب. والقلوب أربعة: "قلب العقرب"، و"قلب السَّمكة"، و"قلب الثَّور"، و"قلب الأسد". وكلَّما ذُكِر القلب على الإطلاق دون إضافة فالمراد "قلبُ العقرب".
وفي العلوم الحديثة وما أظهرته المراصد الكونيَّة والتليسكوبات مثل "فويجر" و"هابل"، فإنَّ نجم "القلب" (Antares) ألمع نجوم كوكبة العقرب وترتيبه الخامس عشر بين أكثر النجوم لمعانًا في السَّماء الليليَّة، وهو نجم عملاق أحمر ثنائي، قدره الظاهري يتراوح بين 0.9 و 1.1، ويتغيَّر كلَّ خمس سنوات، وزمرته الطَّيفيَّة M1 lB يبعد مداره نحو 600 سنة ضوئيَّة عن الأرض. ويتميز بحجمه الكبير إذ يبلغ قطره (300 مليون كم)، أي أنَّه يكبر قطر الشَّمس بنحو 430 مرة. وعلى الرغم من أنَّه أبرد من الشَّمس، إلَّا أنَّ طاقته الإشعاعيَّة تبلغ 60000 ضعف طاقتها، وسطوعه 170 ضعف سطوعها. واحمرار "القلب" إشارة إلى دنوِّ أجله وقربه من نفاد طاقته، وهو معرَّض في أي لحظة للانفجار والتحوُّل إلى نجم صغير أو ثقب أسود.
المظاهر الطبيعيّة:
يستعمل الناس ما في طبعه الحرارة: كالزَّنجبيل، والفلفل. وفي الزراعة يستمر فيه تسميد النخيل، ويشرع الفلاحون بتهيئة الأرض لموسم زراعي شتوي، و يُلبس فيه الثقيل من الملابس لتدفئة الجسم، وتُشتل فيه العروات المتأخرة (العُرْوات تطلق على الخضروات التي تزرع لموسمين في السَّنة) مثل: الطماطم، والبصل، وفصوص الثوم، والباذنجان، والفلفل، ويجتهد فيه البستانيون في حماية محاصيلهم من الصقيع، ويُمتنع فيه عن ريِّ الأشجار إلا ما كان ضروريًا، ويتم فيه تقليم العنب والأشجار النَّفضية (متساقطة الأوراق)، ويكفُّ الفلاحون عن نثر السَّماد العضوي (الدبال)، ويزرع في منزلة القلب: البقدونس، والكزبرة، والبابونج، والخبيز، والمريميَّة، و الحلبة، والعصفر (القرقم)، والزعتر، وقصب السُّكر، والجزر، والفول، والعدس،والعنب.
وفي "الإمارات" تزهر طائفة من النباتات في منزلة "القلب" منها: "المرخ"، و"الكحل"، و"الرَّمرام" ترياق سمِّ الأفاعي والعقارب، و"السلي"، و"الحنضد"، و"الرمث" الزكيُّ العبق، و"الخريط"، و"السويدة"، و"الغاف" الكريم بظلِّه، و"الظفرة" التي تحمل اسم بلاد، و"الحنزاب"، و"السِّدر" الغني بنبقه (نبج)، و"العوسج" الذي يداوى به الجذام، و"بربين الجدي"، و"الشكع"، و"الهَرْم"، و"البنج" الذي يبعث في الجسم السكون، و"الصَّبار"، و"الخناصر"، و"حُوَّا الغزال"، و"الطرثوث"، و"الثندة"، وغيرها.
قال ساجع العرب: "إذا طلع القلبْ، جاء الشتاء كالكلبْ، وصار أهل البوادي في كرب، ولا يمكِّن الفحلَ إلا ذاتُ ثَربْ". (وتشبيههم الشتاء بالكلب دليل على أنهما سمِّيا هرَّارين، لهرير الشتاء عند طلوعهما ومعنى هَرَّ أي نبح وكشَّر عن أنيابه).
ويعتقد العرب أنَّ الزواج في "القلب" جيِّد.
قال عبد هند الثعلبي:
فَسيروا بِقلْبِ العقربِ اليومَ إنَّهُ سواءٌ علَيْكم بالنُّحوسِ وبِالسَّعْدِ
وقال الأسود بن يعفر:
وُلِدْتُ بِحادي النَّجْمِ يَتْلو قَرِينَهُ وَبِالْقَلْبِ قلبُ العقربِ المتوقِّدِ
يقول: "وُلدْتُ بغروب هذا وبطلوع هذا. وهما منحوسان، و حادي النَّجم هو الدَّبَران.
وكانوا يكرهون السفر إذا كان القمر نازلًا بالعقرب،لأنَّ "قلب العقرب" قريب من "الدَّبَران".
وقال أبو الحسين الصوفي:
يعلوهُ نورٌ باهِرٌ وَحُمْرَهْ كأنَّهُ إذا اسْتَنَارَ جَمْرَهْ
لَقبه الأعرابُ قلب العَقْربِ يجيءُ في أشْعارِهِم والْخُطَبِ
وقال ابن منير الطرابلسي:
تطْلُعُ الشَّمْسُ لنا من شَفَقٍ وهو يبدو طالعًا من شَفَقَينْ
قُلتُ لِلكاهِنِ حينَ اختَلَستْ عَينُهُ عَيني فَجَرَّ الحَيْنُ حَيْن
قَمَرُ العَقربِ خُوِّفْتَ فَمَنْ مُنْقِذِي مِن قمرٍ في عَقْرَبَينْ
وقال أبو العلاء المعرِّي:
فمِنَ الغَمائمِ لو علِمْتَ غَمامةٌ سَوداءُ هُدْباها نَظيرُ الهَيْدَبِ
يا سَعْدَ أخْبِيَةِ الَّذينَ تَحَمَّلوا لمَّا رَكِبْتِ دُعيتِ سَعْدَ المَرْكَبِ
غادَرْتني كبَنَاتِ نَعْشٍ ثابتًا وجَعَلْتِ قلبي مِثْلَ قلْبِ العَقْرَبِ
وقال ابن جابر الأندلسي:
إنْ خِفْتَ من فَتْكِ المهنّدِ والقَنا فإذا رَنَتْ وإذا مَشَتْ لا تَقْرَبِ
في قلبِ بُرْقُعِهَا مَحَاسِنُ أُنْزِلَتْ قمرُ السَّماء لَنا بقلبِ الْعَقْرَبِ
وقال الأخطل:
إذا طلعَ العَيُّوقُ والنَّجْمُ أوْلَجَتْ سَوالِفَها بينَ السِّماكينِ والقَلْبِ
(القلب: قلب العقرب. والسِّماك الأعْزَل، والسِّماك الرَّامح، فالرَّامح: بين يديه كوكب يقال له: رُمْحُ سَعْدٍ، والأعْزَل: مفرد لا كوكب بقربه، والنَّجم: الثُّريا والعيُّوق يتبع الثُّريا، وإذا طلع النَّجم بالغداة كان ابتداء الحر ورقيبه العقرب، فعنى الأخطل أنهم لا يسيرون بالنهار مخافة الحر ويسيرون إذا طلع القلب والسِّماكان، وهما يطلعان من أول الليل إذا طلعت الثُّريَّا غدوة، وأولجت: أدخلت، يعني الإبل والسالفة: جانب العنق).

Friday, December 16, 2016

الفنان طلال - مارسيل خليفة






جلسة خاصة مع الفنان طلال سلامة بحضور الفنان مارسيل خليفة والموسوعة الموسيقيّة محسن سليمان ومدير مشروع الموسوعة الشعريّة عبد الله مدني.

عمّموا عليه يا سعادة السفير



زارني الطبيب "سيماما" نهار أمس، ليتحقّق من الضغط وتسارع ضربات القلب، وبعد الفحص قال: سنأخذ تحاليلاً للدم غداً، وراح يصفّ قائمة بالأمراض المحتملة (إيدز، سرطان، غدد، بروستات، هيبتايتس)، وترك ورقة بقائمة الفحوص المطلوبة وقال: الضغط سليم، وكذلك القلب، وسنرى غدا نتائج فحص الدم.
وفي صباح اليوم هاتفني مدير الإستقبال وقال: الممرضة هنا، كانت الساعة الثامنة صباحا، فقلت في نفسي: لماذا بكّرت بنصف ساعة، وأمرته بإرسالها إلى الغرفة، ولمّا دخلت تكلّمت بالفرنسيّة، فأجبتها بالإنجليزيّة، فقالت: تحكي عربي، قلت: نعم، فقالت: اسمك سيمون، فقلت: لا، فتلبّكت وقالت: هناك خطأ، واستأذنت في مهاتفة المختبر، ثمّ اعتذرت وقالت: حدث خطأ، سأذهب إلى المريض الذي قبلك، ثمّ سأعود إليك، فقلت: لا بأس، سأكون في انتظارك، وبعد ربع ساعة عادت، واعتذرت ثانية، وسألتْ ما اسم المختبر الذي تريدني أن أرسل إليه الدم؟ فقلت: اسألي مدير الإستقبال فهو الذي رتّب لي زيارة الدكتور "فيليب سيماما"، فقالت: حسناً.
وراحت تقرأ وصفة الدكتور وتخرج مجموعة لا تحصى من القوارير والأمصال، وقبل أن تأخذ العيّنات هاتفني مدير الإستقبال من جديد وقال: لقد وصلت الممرّضة، فعلمت أنّ هناك سوء تفاهم، فقلت له: لتتفضّل، واعتذرت من الممرّضة الجزائريّة التي كنت قد بدأت معها الخوض في أحاديث عن بلدها الجزائر، وعن الإمارات، فاعتذرت هي كذلك من الخطأ الغير مقصود، وضمّت أدواتها وانصرفت.
ذكّرني الموقف بالحادثة التي جرت منذ أسابيع في مطار (روما) وأنا متوجّه إلى الجزائر بصحبة الصديق مازن مصطفى والسائق أنور، وصلنا إلى قاعة الطيران الإيطالي فلم أجد في لوحة الطائرات المغادرة سوى طائرة جزائريّة واحدة مسافرة إلى الجزائر، فاتجهنا إلى محطّة أخرى بعيدة بلغناها بشقّ الأنفس.
وفي مكتب الإستقبال عرضنا تذاكرنا على المضيفة فتيّقنت بعد عناء أنّنا على الطائرة الإيطالية التالية، فعدنا إلى المحطّة التي جئنا منها، وسلّمت التذاكر للمضيفة، فبينما هي تدخل البيانات حتّى حانت نوبة تبادلها مع الموظفّة المناوبة، وبعد أن فرغت من إدخال البيانات سلّمتنا بطاقات السفر، فذهبنا إلى قسم الجوازات ثمّ إلى بوّابة الطائرة، وكان كلّ شيء يسير على ما يرام، انتظرنا دخول المسافرين إلى الطائرة ثمّ هممنا بالدخول فأوقفني موظّف البوّابة وراح يتأكد من بطاقة سفري مراراً وقال: انتظر هنا، وأشار إلى مكان خلفه، وخاطب مازن قائلا: تفضّل، فردّ مازن: لا، ليس قبل أن تحلّ الإشكال، وكذلك قال أنور.
شعرت كأنني مطلوباً للأمن ورحت أنتظر، اقترب رجل أمن وراح، ومّوظف ثالث يتهامسون، فاستعانوا بمسؤول أكبر، أقبل بعد حين، وراح يعالج ما التبس من أمر في جهاز الكمبيوتر، وبعد برهة اعتذر وقال: سأحل الإشكال، ثمّ ناولني البطاقة وكذلك فعل مع مازن وأنور، كان قد مضى وقتٌ طويلٌ على المسافرين الذين كانوا في انتظارنا في الحافلات التي ستقلّنا إلى الطائرة، وعندما دخلت الحافلة صاحوا بأعلى صوتهم وكأنهم قد تمرّنوا طويلاً على ذلك، ما الأمر يا محمد السويدي، هل ضيّعت الجواز أو التذكرة؟، شعرت بخجل ممثّل يقف أمام الجمهور لأول مرّة، ورفعت جوازي وبطاقة سفري إليهم وقلت: لا، هما معي! ..
حينها دخلت مضيفة أخرى يتبعها رجال أمن وقالت: أريد رؤية كل البطاقات الثمانية والثمانين من جديد، وأضافت بطاقة بطاقة، فتذمّر الركب وقالوا بصوت واحد: مرّة أخرى! فأجابت: نعم، وراحت تعدّ المسافرين حتّى أحصت الجميع، فتحّركت الحافلة إلى أن بلغنا الطائرة، وما أن جلسنا على المقاعد حتّى دخل رجل آخر وقال: من هو محمد السويدي، فأجاب المسافرون بصوت واحد: هو ذاك، فقال الرجل موجهاً كلامه لي: أنت محمد السويدي؟، فقلت: نعم، فقال: وأين محمد السويدي الثاني؟ عندها سألتني امرأة جزائريّة كانت تجلس معي في الصف الأول، ما الأمر؟ فقلت لعلّ موظّفة الإستقبال أدخلت اسمي مرتين، قال رجل الأمن أين هي أوراق حجزك الأولى، وكان أنور قد وضعها في الحقيبة التي ذهبت مع العفش، فقلت إنّها في الحقيبة، فردّ قائلا: لن تتحرّك الطائرة قبل أن أرى هذه الأوراق، فخطر لي أنّها موجودة في بريدي الإلكترونيّ، ففتحت الهاتف وأريته الأوراق التي تثبت الحجز، جرت مداولات قبل أن يندفع رجلاً فجلس في المقعد المتوسط بيني وبين المرأة الجزائريّة، تبيّنت إنّه من عمان، ثمّ دفع رجل الأمن الهاتف لي، وخاطب الرجل العماني قائلاً: أين أوراق حجزك؟ تململ العمانيّ وقال: أنا رجل دبلوماسيّ أعمل في سفارة عمان في الجزائر، ولقد فرغتم من الرجل هذا (وأشار إلي) لتنشغلوا بي، لقد مررت بحواجز كثيرة لم تعترض دخولي حتّى بلغت الطائرة، وأضاف لن أبرح الطائرة أبداً، وبعد التدقيق في أوراقه تبيّن أنه من ركّاب الطائرة الجزائريّة التي كان مقرّرا أن تسافر قبلنا بساعة، فأمر رجل الأمن الدبلوماسي العماني بمغادرة الطائرة، فغادر وهو يدمدم ويتوّعد، أعيد حساب المسافرين من جديد فكانوا ثمانية وثمانين، وأعلن قبطان الطائرة عن الإقلاع بعد تأخير قارب الساعتين.
قصصت هذه الحكاية مراراً في الجزائر، وذات مرّة كان سعادة ناصر بن سيف الحوسني سفير عمان في الجزائر حاضراً فقال: هذا رجل يعمل لدينا في السفارة وما زلنا في انتظار أوبته، فقلت له: قبل أن يكمل جملته: لا تركنوا للطليان ولا للطيران الإيطالي، عمّموا عليه يا سعادة السفير.

كومو والنبيل الروماني الكامل



 
قصدنا قصر «دي أستي» الريفي في «شيرنوبيو» بإيطاليا، لتناول وجبة الغداء، ودلفنا فيلا الكاردينال «أوتّافيو جاليوس» وصرنا في بهوها فتراءت أمامنا الساحة المطلّة على بحيرة «كومو».
وما أن بدت كومو* تتمدّد أمامنا حتى شعرنا كما لو أننا في الفردوس، جبال مشكوكة خواصرها بمنازل تشرف عليها وتتخللها أشجار الصنوبر، كان كل شيء في كومو متلاحماً وكأنه اتخذ هيئة جسد واحد، أما الماء فكان يعكس صفحة السماء كمرآة، إنها كومو Lago di Como التي اشتق اسمها من اسم المدينة التي كان يطلق عليها الرومان: (كوموم)، وهي بحيرة جليدية تبلغ 146 كيلو مترا مربعا، مما يجعلها ثالث أكبر بحيرة في إيطاليا، أما عمقها فيزيد على 400 متر (1320 قدما)، وتُعدّ واحدة من أعمق البحيرات في أوروبا.
منذ العصور الرومانية وكومو مركز جذب خلّاب للأرستقراطيين والموسرين، وما زالت ضفافها تحفل بالعديد من الفلل والقصور التاريخية.
تأخذ البحيرة هيئة حرف yy ويصبّ فيها نهر (أدا) الذي يدخل في البحيرة قرب كولكو ويتدفق عبرها إلى ليكو. هذا التشكل الجيولوجي يجعل فرع جنوب غرب البحيرة طريق مسدود عند كومو.
ولعلّ السيد الروماني الكامل «بلني» الأصغر كما أطلق عليه «ول ديورانت» هو أحد علاماتها ومواطنيها الذين لا تُذكر كومو إلا وذكر معها.
عاش بلني الأصغر المعروف أيضا باسم بلينيوس الأصغر بين عامي (61 – 112 تقريبًا). ونشأ وتعلم على يدي عمه بلينيوس الأكبر. وشهدا معا ثورة بركان فيزوف في 24 أغسطس 79م.
عمل قاضيا في عهد تراجان، وكان رجلاً صادقًا ومعتدلاً، شغل العديد من المناصب المدنية والعسكرية. ولعلّ خطاباته التي حفظتها لنا مصادر عدة تعتبر أكثر تركاته أهمية، ولقد جُمعت في عشرة كتب، ومن خلالها يمكننا أن نتعرف على حياة وانشغالات الروماني المهذّب والكامل، منها ما تركه من سرد تفصيلي لبركان فيزوف وكانت موجهة إلى صديقه المؤرخ تاسيتوس، وعرّج فيها على عمه بلني الأكبر الذي قضى في ثورة البركان.
كما تركت خطاباته التي وجهها إلى الإمبراطور تراجان وصفا وتعريفا للنصارى، ولم يكن قد سبقه أحد إلى ذلك.
كان بلني الأصغر لا يذمّ روما ولكنّه كان أسعد حالاً في كومو، وقال في وصف منزله الريفيّ: إنه من السعة بالقدر الذي يستريح له، وإن نفقاته لا ترهقه؛ ولكنه بعد أن يستمر في وصفه يخيل إلينا أن في هذا الوصف شيئاً من التواضع، فهو يحدثنا فيه عن مدخل من فوقه نوافذ زجاجية وتعلوه طنف... وبه حجرة جميلة للطعام تعانقها آخر أمواج البحر عناقاً خفيفاً، وتضيؤها نوافذ واسعة تطل على البحر من ثلاث جهات فتحسبه ثلاثة أبحر مختلفة، وبه ردهة كبرى "يمتد بصر من فيها إلى الغابات والجبال"، وحجرتا استقبال ومكتبة على شكل نصف دائرة تستقبل نوافذها الشمس طول النهار"، وحجرة للنوم. وعدة حجرات للخدم. وكان للبيت جناح منفصل عنه يحتوي "حجرة استقبال ظريفة"، وحجرة أخرى للطعام وأربع حجرات صغيرة، وحماماً، وتوابعه وتشمل "حجرة جميلة لخلع الملابس"، وحماماً بارداً، وحماماً فاتراً به ثلاث برك مختلفة حرارتها، وحماماً ساخناً، تسخنها كلها أنابيب من الهواء الحار. وكان في خارج البيت بركة للسباحة، وساحة للعب الكرة، ومخزن، وحديقة متنوعة الغروس، وحجرة خاصة للمطالعة، وردهة للمآدب، وبرج للأرصاد يحتوي على شقتين وحجرة للطعام.
كما يُعدّ بلني من المبكرين الذين تركوا نصوصا عن (الأشباح) في الآداب الغربية الكلاسيكية، من خلال قصة سرد فيها أحداثا تدور في بيت مهجور في أثينا يقطنه شبح هزيل مقيّد بسلاسل ثقيلة، يعمل على تحريكها ليلا فيجلب الصخب والمرض لقاطني البيت، ثم همّ أحد الفلاسفة بشراء البيت متجاهلا كل ما سمع عنه، وفي أحد الايام يفلح بتعقّب الشبح وهو يجرّ سلاله حتى بلغ حديقة الدار واختفى، فأوصى الفيلسوف بحفر مكان اختفاء الشبح وعثروا على هيكل مقيد بالسلاس، فأعاد دفنه بطريقة لائقة وكريمة ومنذ ذلك اليوم كفّ الشبح عن الظهور.
وهي بلا ريب قصة تشعر بها وكأنها هوليودية، ولطالما انتجت السينما ثيمات وموضوعات تناولت الأشباح بذات الصورة التي كتبها النبيل بلني.
أما عمه بلني الاكبر فلقد ولد في كومو وعاش بين عامي (23 - 79م). ووضع الكثير من الأعمال التاريخية والفنية التي لم يتبق منها سوى 37 مجلدًا من التاريخ الطبيعي. ويُعد أهم المصادر التي تكشف عن المعرفة العلمية خلال فترة بليني، كما يعتبر بليني الأكبر أشهر مؤرخ روماني على الإطلاق. وقد اقتبس منه تاكيتوس، وسواه من المؤرخين المعاصرين أو ممن جاءوا بعده. وكان هذا المرجع أحد العـُمد التي سار على حذوها سويتونيوس وپلوتارخ. ولقد فقدت جميع كتاباته وخصوصا تلك التي أوصى بنشرها بعد موته ولم يبق متداولا في عصرنا منها سوى كتابه (التاريخ الطبيعي).
 عمل بلني الأكبر محاميًا، وتولى مناصب حكومية هامة. كما كان أدميرالاً على الأسطول الذي كان بالقرب من پومپي عندما انفجر بركان جبل ڤيزوڤ في عام 79م ومات هناك وهو يحاول إنقاذ اللاجئين.
 لقد تعاقب على كومو وبحيرتها حكام ودول عديدة، وبرغم هذا فلقد شهدت الإستقرار في جميع الأحقاب وباتت الآن (كما كانت دائما) مقصدا لكبار رجالات السياسة والمجتمع والموسرين.
 فإذا أدركنا أنها كانت موطنا للبيلنيين العم وابن الأخ، فلقد كانت أيضا تحت نفوذ آل سفورزا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وعُرف عن سفورزا أنه كان راع للفن والفنانين والمفكرين، ولقد قرّبهم إليه وجعل ميلانو وتوابعها على أيامه في رخاء ورفاهية قلّ نظيرهما في العالم آنذاك.
قصدنا بعد ذلك حديقة القصر، ولا تحتاج إلى أكثر من أن ترسل نظرك في أرجائها لتدرك كم أن الحدائق تمثّل قديما وحديثا قيمة ليست على المستوى الجمالي فحسب بل ترتفع بها لتكون رحما وحاضنة لأنواع من النباتات بما فيها النباتات الاستوائية التي استفادت من المناخ المعتدل بسبب استقرار 22.5 كيلومتر مكعب من مياه البحيرة، والتي جعلت وجود هذا الضرب من النبات ممكنا.
 وقديما يمكننا أن نعود إلى ما تركه بليني في وصف الحدائق، فقال أنه كان يقضي الساعات في كومو بالقراءة والتفرّس في حدائقها، وما زالت نفس الحدائق موجودة تلعب الدور ذاته، وها أنا بعد ألفي عام أجدني في مطاردة ذات الفرائس الخضراء التي سبق للنبيل الروماني الكامل أن طاردها.
 أما حديقة فيلا دستي فلقد كانت تحفها ألسنة وأذرع للماء، ذراع يتلوه آخر في مسالك وجادات تأخذك إلى تمثال هرقل الذي هو تمثيل حكايته مع الخادم عندما لبس قميص القنطور وقد كان مسموما فدبّ به السمّ، وشكّ في خادمه، والتمثال لتلك اللحظة التي رفع هرقل خادمه مغضبا.
 وبرغم ذلك كله كان ثمة أمراً محزناً في شأن فيلات كومو وقصورها، فلقد تم تحويل الكثير منها إلى فنادق بعد أن ابتليت بالملّاك الجدد الذي جاءوا من بلاد العرب والصين وروسيا، ففقدت «كومو» بمجيئهم ذاكرتها وصار شاقا التعرّف على أصابع بليني وسفورزا فيها.
ومن التجارب الشبيهة بهذه والتي تؤكد الفصام التاريخي بين المكان وملّاكه الجدد، ما سبق لنا أن خبرناه في فندق «السانت ريجس» في روما، حيث لم يتعرف العاملون فيه على الوجوه التي تتوسط سقف البهو الرئيس، ولقد درجوا على الإجابة عندما يواجههم أحد النزلاء بالسؤال عنهم فيلوذون بالقول: إنهم فلاسفة!!.
 بينما كنا نعلم علم اليقين كنه الوجوه والأشخاص..
في اليوم التالي قررنا العودة إلى بحيرة كومو، ولكننا قصدنا هذه المرة الكاتو نيرو (أي مطعم القطة السوداء) وتناولنا الغداء على مشهد من البحيرة قلّ نظيره، فصرنا كمن يحاول أن يدّخر في ذاكرته أكبر قدرٍ من المشاهد ليطول بقاؤها واستردادها.
فـ «كومو» هي جمال مكثّف، تحتاج إلى تفكيك عناصره عنصراً عنصراً، وبالتالي لا يمكن استيعابها بنظرة عجلى، أو زيارة سريعة، فعليك أن تتردد عليها لتتمكن من الظفر ببعض جمالها.
 كان جوته يردّد كلما شاهد الكالبسيوم أو البانثيون إنه طالما كان يفاجؤه حجم هذه الأمكنة بالقياس إلى حجمها في مخيّلته.
كذلك الحال في كومو فكلّما حدست أنك أحطت بجمالها، فاجأتك بجمالٍ مضاعف.
 زارها الشاعر الإنجليزي «ويليام ووردزوورث» مع صديق له سيراً على الأقدام، كما كان «هيتشكوك» يقصد كومو وتلذّ له الإقامة في فيلا دي أستي.
تذاكرنا ومجموعة من الأصدقاء النهايات المفجعة للملوك والأمراء الذين زاروا هذا الكوكب، كالموت الفاجع والمؤلم لسفورزا، ولكننا لم نشأ أن نقفز على الميتة المأساوية لنابليون العظيم بمنفاه في جزيرة سانت هيلانه، وقد انتهى به المطاف في غرفة معتمة يقتسمها مع الفئران، والنهاية المأساوية للشاه وأسرته، وللمعتمد بن عباد وعائلته، ولهتلر وموسوليني ولبعض المعاصرين هنا وهناك.
 أما سفورزا فلقد جاءت نهايته كنتيجة للحسابات الخاطئة والتحالفات غير المصيبة وخيانة المقربين منه، وانتهى أمره بالقبض عليه من قبل الفرنسيين الذين احتلّوا «ميلانو»، وجرّوه من شعره أمام الجموع التي احتشدت في مدينة «ليون»، ثم أودع تحت الإقامة الجبرية، وعندما حاول الهرب ضلّ سبيله في الغابات فأدركته الكلاب، وقُبض عليه ثانية وألقوه في غيابة قبو معتم فمات رجل الأنوار ميتة مؤلمة ومخزية.
وبعد نهارين مجييدن في كومو عدنا إلى ميلان.
#محمد_أحمد_السويدي #إيطاليا #كومو
 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كومو: مدينة شمال إيطاليا، عاصمة مقاطعة (كومو Como ) في إقليم لومبارديا، مقامة على الضفاف الجنوبية الغربية لبحيرة كومو التي تشتهر بها، تحد سويسرا من الشمال الغربي وتبعد 45 كم شمال مدينة ميلانو.

Thursday, December 15, 2016

كيف كانت الحياة قبل اكتشاف


ندعوكم لقراءة هذا المقال «كيف كانت الحياة قبل اكتشاف "الصفر" » للصحفية «انا فراي»، يأتيكم ضمن المشاهدات المختارة من الشبكة العنكبوتية، التي يرشحها الشاعر الإماراتي #محمد_أحمد_السويدي لقراء  الصفحة الكرام، نرجو أن تحوز إعجابكم.
تحكي لنا عالمة الرياضيات هنّا فراي القصة المحيرة وراء 'اكتشاف' الصفر، ولماذا لن نستطيع التنبؤ بما سيحدث مستقبلًا من دون الصفر.
لا شيء يمثل صميم العلوم والهندسة والرياضيات، مثل الصفر بالطبع.
وقد أثار هذا الرقم القوي، رغم انعدام قيمته، جدلًا واسعًا وأدخل على النفس سرورًا أكثر من أي عدد آخر، وذلك لسبب واحد، أنه يمكننا من استشراف المستقبل.
لكن لكي ندرك مدى قوته ونفهم مبعث تلك القوة، علينا أن نفهم أولًا كيفية نشأته والمعارك التي خاضها. فالصفر لم يحظ بهذه المكانة إلا بشق الأنفس.
كان الصفر معروفًا منذ قديم الزمان، لكن كمفهوم وليس كعدد. فقد ظهر في كتابات الحضارة البابلية وحضارة المايا، إذ كان يستخدم لحساب انتهاء فصول السنة. كما استخدمه العلماء قديمًا ليرمز إلى عدم وجود عدد في إحدى الخانات، كما هو الحال عندما نضع صفرًا في العدد 101 أو 102، للدلالة على عدم وجود مضاعفات العدد 10 في الخانة الوسطى. وقد كان البابليون يرمزون للصفر بسهمين صغيرين مائلين.
ولكن على الرغم من روعة الرقم صفر، إلا أنه لم يُعترف به كعدد صحيح إلا بعد ألفين سنة، وكانت الهند أولى الدول التي اعترفت به.
يرى أليكس بيلوس، مؤلف كتب الرياضيات، أن الهند وفرت البيئة المثالية لظهور الصفر، ويقول معقبًا: "فكرة اللاشيء، الذي يمثل بذاته شيئًا، هي فكرة راسخة في الثقافة الهندية. لو تأملت مثلًا كلمة 'نيرفانا' التي تعني حالة من اللاوجود أو العدم، حيث تتخلص من جميع مخاوفك ورغباتك. فلماذا لا يوجد رمز للدلالة على اللاشيء؟".
وأطلق الهنود على هذا الرمز اسم "شونيا"، وهي كلمة مازالت تستخدم اليوم لتعني اللاشيء كمفهوم، والصفر كعدد.
وعلى الرغم من أن جميع الأرقام الأخرى التي نستخدمها اليوم قد تغير شكلها تمامًا على مرّ التاريخ، فإن الصفر ظل محتفظًا بشكله الدائري. وقد كنت دومًا أتخيل أن الدائرة ما هي إلا ثقب، لا يمثل شيئًا، إلى أن أدركت مفهوم الصفر الذي عرضته فراي مع روثرفورد في برنامج "الحالات المثيرة للفضول" على إذاعة بي بي سي فور.
ووفقًا للمذاهب الدينية الهندية، فإن الصفر مستدير لأنه يدل على دائرة الحياة، أو كما كان يعرف باسم "ثعبان الخلود (أوروبوروس)".
 الرمز الذي كان يستخدمه البابليون للدلالة على عدم وجود عدد في إحدى الخانات.
وعودة إلى الهند، حيث مهّد براهماغوبتا، عالم الفلك، الطريق لصعود الصفر إلى المجد في القرن السابع. وقد يستخدم شونيا (أو الصفر بالهندية)، في الرياضيات، للدلالة على انعدام العدد في إحدى الخانات، لئلا تترك هذه الخانة خالية فتختلط حينئذ الآحاد بالعشرات والمئات، فضلًا عن أنه قد يُستخدم في الحسابات، مثله مثل أي رقم آخر.
وعلى الرغم من أن الصفر قد يُضاف ويُطرح ويُضرب في غيره من الأرقام، إلا أنك قد تجد صعوبة في القسمة على الصفر. غير أن هذا التحدي بعينة كان بمثابة نواة لمجال جديد رائع من الرياضيات، كما سنرى لاحقًا.
وبعد أن شاع استخدام الصفر في جنوب آسيا، وأصبح له مركزًا وطيدًا بين الأرقام، شقّ طريقه نحو الشرق الأوسط، حيث تلقفه العلماء في العالم الإسلامي وحظي بأهمية كبيرة، وشكل جزءًا من نظام العدّ العربي الذي نستخدمه اليوم، (يقول بعض المؤرخين إن الأدلة التي تثبت نشأة الصفر في الهند قد طمست من التاريخ، ومن الأحرى أن نطلق عليه، نظام العد الهندي- العربي).
ولكن بعد هذه البدايات الروحانية والفكرية الرائعة، واجه الصفر صراعًا حقيقيًا. فقد تزامن انتقاله إلى أوروبا مع الحروب الصليبية على البلدان الإسلامية. وفي هذا الوقت، كانت كل الأفكار الواردة من العرب، حتى لو كانت في مجال الرياضيات، تُقابل بالتشكيك والارتياب من مختلف الطوائف.
وفي عام 1299، حُظر استخدام الصفر في فلورنسا، بإيطاليا، وحظرت معه كل الأرقام العربية، لأن هذه الأرقام، حسبما زعموا، ستؤدي إلى إشاعة الغش والتدليس بين الناس. فإن الصفر، بحسب قولهم، يسهل تعديله ليبدو كأنه الرقم تسعة، ثم ما الذي يمنع الناس من إضافة بضعة أصفار إلى الرقم الوارد في نهاية الإيصال لتضخيم السعر؟
والأدهى من ذلك، أنهم كانوا يرون أن الصفر سيؤسس لسلوك خطير، لأنه يمثل مدخلًا إلى الأرقام السلبية. وقد أضفت هذه الأرقام السلبية الصبغة الشرعية على مفهوم الديون والاقتراض.
 لا شيء يبعث على الفخر
والعجيب أنه لم يُجز استخدام الصفر وسائر الأرقام العربية في أوروبا سوى في القرن الخامس عشر. علمًا بأن جامعة أكسفورد قد أقيمت في إنجلترا قبل قرون من إجازة الصفر والأرقام العربية، وكانت المطبعة التابعة لها تعمل بنشاط.
ومما لا شك فيه، أن جامعة أكسفورد والمطبعة التابعة لها قد ساهمتا في ازدهار فكرة استخدام الصفر في الرياضيات، ليمثل الركيزة الأساسية لبعض أفضل الأساليب العلمية والتكنولوجية التي نستعين بها اليوم.
يقول بعض المؤرخين إن الأدلة التي تثبت نشأة الصفر في الهند قد طمست من التاريخ، ومن الأحرى أن نطلق عليه، نظام العد الهندي- العربي
ومع حلول القرن السابع عشر، حقق الصفر إنجازًا جديدًا، حين أصبح أساسا لنظام الإحداثيات الديكارتي (أي السين والصاد كما درستها في الرسم البياني في المدرسة)، الذي اخترعه الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت.
ومازال نظام الإحداثيات الديكارتي مستخدمًا في كل شيء من الهندسة إلى تصميمات الغرافيك.
وفي وصف رائع لقدوم الأرقام العربية، قال بيلوس: "أشعل قدوم نظام العد العربي، الذي يتضمن الصفر، إلى أوروبا، شرارة عصر النهضة، ليثري علم الحساب الباهت بالألوان المتعددة ويزيده بهاءً".
وقد زادت قوة الصفر إبان عصر النهضة، ليلهب حماسة محبي الرياضيات مرة أخرى. فقد ذكرت في البداية إشكالية القسمة على الصفر، وقد أضحت مسألة قسمة الصفر على الصفر، الأكثر إشكالًا، أساسًا لحساب التفاضل والتكامل، وهو أحد أفرع الحساب المحببة إلى نفسي.
يُعنى التفاضل والتكامل بحساب معدل التغير ويوفر لنا بعض الأساليب الفعالة للتنبؤ بما قد يحدث في المستقبل، بدءًا من انتشار الإيبولا إلى حركة أسواق الأسهم، فهو يعد أداة ناجعة بالفعل.
وإيجازًا، كيف يعمل التفاضل والتكامل؟ تخيل أنك ترسم رسمًا بيانيًا لشيء يتغير مع مرور الوقت. لنقل مثلًا معدل تركيزك أثناء قراءة هذا المقال. فبما أن انتباهك قد يتشتت مع الوقت، ولا سيما في الجزء الخاص بالإحداثيات الديكارتية، فستجد الخط يتعرج يمينًا ويسارًا.
ولكن بتكبير الرسم البياني، ستجد أن كل جزء من المنحنى يبدو وكأنه خط مستقيم. وبتكبير الرسم أكثر فأكثر، إلى حد يسمح لك بتحليل الأجزاء متناهية الصغر من المنحنى، التي تقترب من حجم الصفر، ستجد أن كل العلاقات المتشابكة أصبحت خطوطًا مستقيمة ومهندمة، ويسهل التعامل معها رياضيًا.
ومن خلال التفاضل والتكامل، يمكنك أن تصف معدل تغير أي شيء يطرأ على بالك، من حركة أسواق الأسهم مع مرور الوقت إلى سرعة انتشار الدواء في مختلف أجزاء جسمنا. وبالطبع لولا الصفر، لما كنا تمكننا من قياس أي من هذا.
ولهذا فإن هذا العدد الأقوى والأكثر استدارة في التاريخ يستحق أن نحتفي به كما ينبغي.
#مختارات_من_الشبكة_العنكبوتية
*المصدر:موقع  BBC Future

Sunday, December 11, 2016

أخلاقُ فلورنسا

لا أستطيعُ تفسيرَ وجود النُصْبِ التذكاري الغريب للمهراجا "راجارام" من كلهابور في أقصى طرف جنائن كاشيني. يُقال إنّه قضى بعد فترة وجيزة من وصوله إلى فلورنسا، وكان قد خرج من بلاده قاصداً لندن في رحلة لتحصيل العلم، فحلّ ضيفا على الحكومة البريطانيّة، واستقبله كبار رجالات الحكومة، ثمّ سافر إلى فلورنسا فألمّ به التهاب في الصدر، ومات في غضون أيّام، ولمّا أرادت عائلته إقامة طقوس الحرق، في فلورنسا، كما جرت عادتهم، وافق السيّد «مديتشي» والي المدينة، على أن يكون ذلك في موضع بعيدٍ عن المدينة، وهو ذات المكان الذي يقوم فيه النصب اليوم، وعلى أن يتمّ ذلك ليلاً.
كان ذلك في أوائل ديسمبر 1870، ثمّ ذُرّ رماده في النهر بناء على طلب العائلة، واليوم، صار الجسر الضخم ذو الطريقين يسمّى باسمه، والطريقان واحد للسيّارات، والآخر للمشاة.
فقلت في نفسي: صدق ليوناردو دافنشي في وصف #فلورنسا عندما قال: «فلورنسا هي معبر من خلاله يمرّ  غرباء كثيرون»، وعندما علمت الصديقة/ سيلفيا الفلورنسيّة المولد بذلك، أقسمت أن العمدة قد قبض لقاء ذلك مكافأة سنيّة، قلت: هكذا يفسّر الطليان هذه القرارات في مثل هذه المواقف.
 قال صاحبي: لقد تبيّن لي سبب إقامة العرس الهندي الصاخب قبل أعوام في الساحة المقابلة لفندق الجراند هوتيل الذي أقام فيه المهراجا، وقضى.
بعد جولتي في متنزّه «كاتشيني»، المعتادة، ذهبت إلى ساحة السّادة، ووقفت أمام الموضع الذي أحرق فيه الداعية المتزمت «سافانارولا»، قبل دخول القرن السادس عشر.
ثمّ عرجت على القصر القديم الذي أقيمت فيه مسابقة القرن بين ليوناردو دافنشي ومايكلأنجلو، تلك المسابقة التي لم يكتب لها النجاح؛ فلقد هجر الثاني العمل بعد أن استدعاه بابا روما، وأمّا الأول فلقد أفسدت لوحتَه الأمطارُ الغزيرة التي انهمرت وتسلّلت من فتحات السقف، وكذلك رعونة «سالديني» حاكم جمهوريّة فلورنسا التي استمرّت أربعين عاما.
مررت على ساحة «بياتزا دي سانتا ترينيتا» قبالة محلّ سلفادوري فرّاجامو. هنا حدثت المشادّة الكلاميّة بين ليوناردو ومايكلأنجلو، وهي مشّادة من طرف واحد.
ثمّ عبرت الجسر القديم، هنا لو كثّف الزمن، لوجدتني أقف مع ليوناردو ومايكلأنجلو ورفائيل وميكافيللّي ودانتي وجاليليو، ومئات من العظماء الذين عبروا الجسر، وحدهم آل مديتشي (لوراندزو وآله) المستثنون، فقد بنوا معبراً فوق الجسر لأنهم لا يؤثرون مخالطة الناس.
ثمّ أعود عابراً ساحة جميع القدّيسين لأسلّم على «بوتاشيلّلي» الذي ينام في كنيسة الفرانسيسكان بنفس اسم الساحة.
»فلورنسا» بلد أُثر عنه حب الغلمان، أوَما كان «ليوناردو» في حريره ومخمله لا يفارق كوكبته من الشبّان ذوي الرؤوس المعقوصة، وأمّا «داناتللو» فقد أَنجَز فيها تمثاله الذائع الصيت (داوود) وقد بدا بعجيزة امرأة.
 

Saturday, December 10, 2016

لغة «الرمل» ولغة «الماء»


حللتُ في الجناح رقم 52 في قصر الباور، والاسم يعود إلى أسرة عريقة تتحدّر أصولها من ألمانيا، تواجهني وأنا مقبل إلى فنائه الداخليّ ساحة، وفي الجانب طريقٌ معبّدٌ بالماء.
 أما الساحة فهي خليج داخلي يُطلق عليها: القنال الكبرى. وهي ذاتها التي سبح فيها بايرون.
صحوتُ بعد قيلولة أثيرة وناعمة على حداء ملاحي قوارب القناة، ولقد كان اقرب إلى حداء العيس منه إلى حداء الجندول، بل يمكنني القول أنه أقرب إلى الرمل منه إلى الماء.
 ولقد شقّ عليّ أن أدرك بعد خطفةِ إصغاءٍ أن الراكب لا يدرك حداء الحادي وشعره ولا الحادي يدرك لغة الراكب. كان الأمر شبيها بحوار «المتنبي» مع بائع البطاطيخ.
 وأنا في غمرة حداء لا ينتمي إلى نفسه تذكرت حكاية سردها صديقي بو مصبّح عندما استقلّ طائرة وكان يجلس إلى جانبه رجل يراه لأول مرّة.
استدار الرجل ببعض جذعه ناحية (أبو مصبح) وسأله: من أين الأخ؟
فأجابه: من «الإمارات»، ثم سأل أبو مصبح الرجل باقتضاب: وأنت؟
فأجابه وقد فغر فاه دهشة: أنا؟ ألا تعرفني؟
 فأسقط في يد (بو مصبح) وقال: أن سؤال الرجل أحرجني، فأنا أعرف الرجال في بلدي من الخرّان إلى السلع، أما هذا الرجل الذي تضاعف حجمه وعدّل من جلسته لمرات بانتظار أن أنطق بمعجزة أسمه جعلني أعود بذاكرتي وأنبشها بقسوة: يا تُرى من هذا الرجل؟..، فقلت في نفسي لعلّه أحد الموظفين الإداريين في المنطقة الغربية ولم أنتبه لوجوده بشكل يجعلني قادراً على معرفته بمجرد النظر إليه، أو ربما أحد العاملين بمحطة بترول أدنوك ولابد أننا كنا نتبادل مجاملات سريعة عندما أتوقف في المحطة لملء خزان الوقود، ثم استقرّ رأيي على ذلك وأردت أن أخبره بالأمر.. فبادرني الرجل قائلاً وهو يحتفظ على سحنته بمزيج من الرجاء والإحباط: أنا «وديع الصافي». يقول بومصبح: وما أن نطق اسمه حتى شعرت بخجل مضاعف فأنا لم اسمع بوديع الصافي من قبل أبدا...
تذكرت هذا كلّه، وأنا أستيقظ على حداء ملّاحي الجنادل في #البندقية، فلقد هجروا قواربهم منذ أن بلغ بايرون الجهة الأخرى من القناة ومنذ أن أصغى جوته إليهم وهم يردّدون أشعار تاسو بحداء الماء الذي يشبه النحيب.
لقد هجروا كل شيء وتركوا خلفهم مادة غيابهم ليشغلها الغرباء بلغة الرمل وحداء العيس.
لقد كان #جوته آخر من قبض على جمرة حداء جنادلة البندقية وأصغى إلى نحيب أرواحهم وضربات  مجاديفهم في الماء، ومع كل ضربة كانوا يقطّرون أرواحهم غناءً. ولقد وصفهم في رحلته وصفا جميلا.
أما الآن فأفواج السيّاح من اليابانيين والكوريين والهنود والآسيويين بعامة لا يميّزون بين أغنية (يشلها) أحمد الكندي وبين أخرى يرسلها (ديميس روسس).
لم يعد في وسع القوم التفريق بين عرس البندقية العظيم وبين ما آلت إليه أحوال هذه المدينة.
هذه الأمور مجتمعة تذكرني أيضا بالإشكالية التي نواجهها يوميا مع أفواج السياح ممن يختزلون الصحراء وثقافتها وعمقها وحيواتها بالجَمَل وحده، وهم لا يميّزون بين الناقة والبعير ولا بين أنواع الإبل، فيكون اختزالهم للفكرة منقوصا أيضا. فكلّ ما يريدون أن يخرجوا به من سياحتهم هذه هي تلك الصورة البائسة التي تجمعهم بالناقة وجمّالها الآسيويّ والذي لا يقلّ عنهم في الغالب جهالة.
 في هذه الأيام، لم يعد الحداة من البنادقة، ولم يعد هناك من سمع منهم بتاسو وشعره، ولو عاد جوته اليوم لأحزنه ما آل إليه الحداة وما آلت إليه أغاني الشاعر؟
 لقد ذكر أنه طلب من حادي الجندول أن يغنّي له شيئا من تاسو، فماذا لو قمت أنا بالأمر ذاته وسألت أحد حداة الجندول أن يغني شيئا لتاسو وأريوستو؟
 قال جوته: جلست على مقعدي في الجندول وكان القمر قد بزغ، وطفق مغنيان، أحدهما يجلس عند القيدوم والآخر عند الدفة، يترنمان بالقصيد تلو القصيد تناوباً. وان النغم الذي نعرفه من روسو يقع وسطا بين الحوار المغنى وتراتيل الكورس، ويمضي دوماً بايقاعات زمنية واحدة دون ضربات محددة. وان انتقالات المقام هي من الصنف ذاته، ويغير المغنون طبقة الصوت تبعاً لمحتوى الشعر في نوع من الترنيم. لن اخوض في مسألة نشوء وتطور هذا الضرب من الانغام. حسبي القول انه المثال الملائم لشخص يغني خالي البال مع نفسه، مكيفاً النغم مع القصائد التي يحفظها عن ظهر قلب.
قلت: ولكن الغالب على ملاحي اليوم يجعلني أفكر بملاحي العالم السفلي في حضارات العالم القديم، فليس هناك من علاقة بين الجندول وحاديه، فلقد انقطعت وولى زمانها وهو أمر يبعث على الحزن، وهؤلاء عالة على ثقافة البلاد، أما السيّاح فهم يغذّون بسطحيتهم الجهل بالجهل حتى يصبح مركّبا فتضيع ملامح الحالة الأولى، أو الحالة الأصلية التي كانت تبعث تاسو من موته في كل مرة تسيل حناجر الحداة بأشعاره، إنهم بتعبير آخر يفرّغون الجسد من روحه ويتركونه ملقى جثة هامدة.
 السياحة هنا تُعدّ عامرة، ولكن في الغالب يكون الجسم الأكبر من السياح هم من المعسرين ممن يزدردون من الطعام ما يقيم أودهم وليس ما يحملهم على سبر أغوار المطبخ الحقيقي لهذه المنطقة، وكان هذا سبباً في فرض ذائقتهم على أرقى مطاعم البلد.
أما الضالعون بالبندقية فهم من القلة، والبندقية في هذا الأمر أقرب إلى الأوبرا وتراثها منها إلى أي شيء آخر، فقليلون فقط من يمتلكون الدراية اللازمة لتفكيك عناصر هذا العالم وتحويلها إلى جمال مطلق.

Thursday, December 8, 2016

أمسية في مطعم مالدانادوس

أوبرا 1
حدث كل شيء عندما دعانا الدكتور «نيفيل وليام» إلى عشاء في مطعم « Maldanados » الفاخر وكان ذلك في عام 1982
قصدتُ المطعم بصحبة الأخ /ناصر والأخ أنور الخاجة
 وفور دخولنا عرفنا أن المطعم وفّر إمكانية الاستماع إلى وصلة غنائية أوبرالية تؤديها مغنيّة صحبة السيد «مالدانادوس» ذاته الذي سيرافقها على البيانو.
لم أكن في ذلك الوقت أحيط علما بالأوبرا بالرغم من أنني ألمّ بجانب من الموسيقى الكلاسيكية وكذلك موسيقى البوب.
كان المطعم يمتلئ عن بكرة أبيه بالرواد، بل كان يبدو وكأنه غصّ بهم على نحو جعلني افكر بأنهم ربما جاءوا من أجل مغنية الأوبرا.
وكان ضوء الشموع يمنح المكان بُعدا سحريا بدا لي وكأنه عقد تحالفا مع اللحظة المرتقبة، وفجأة وعلى مسرح صغير أضيئت الأنوار، وبعد برهة أخرى خرجت امرأة من الوزن الثقيل.
باغتني الأمر برمّته، فلقد هيأت حواسي لاستقبال بروك شيلدز أخرى، وهي التي كنا نراها بين الحين والآخر في متاجر لوس أنجلوس، أو ربما مثل جوليا كريستل التي نهض في بدنها الفرنسي حشد من ملائكة فناني القرن التاسع عشر، وكانت تقدم باقات (الغوز دي مي) على مداخل صالات سينما أوديون.
أما تلك المرأة التي أطلّت علينا وجعلت ضوء الشموع يتحوّل إلى عدسات مكبّرة لنراها وكأنها قد فاضت على المكان، فلقد كانت امرأة أخرى
 وكلما تقدّمت خطوة، صدق ضوء الشموع وكذب ظنّنا.
كانت اشبه شيئا بمصارع سومو ياباني ثبّت قدميه على الحلبة، وصرخ فينا، هل من منازل؟.
ولكن صوتها كان رفيعا كخيوط الحرير على نحو جعلني أفتّش عن المكان الذي يخرج منه. وعندما اكتشفت أن مصارع السومو الذي فاض على خشبة المسرح صعدت موجة ما، موجة غامضة من أحشائي، لم أتمكن من تحديد المكان أو ماهيته ولكنها موجة لم أكن قادرا على تبيّن ما ستسفر عنه، بدأت ترتفع رويدا رويدا من رئتي ثم انفجرت من فمي على هيئة ضحك هستيريّ.. أردت أن أعيدها إلى أحشائي، ولكنها لم تستجب، فلقد انفجرت في كل مكان ولم أعد قادرا على كبح جماحها، وأخذت أضحك، شعرت أن جسدي كلّه تحوّل في لحظة واحدة إلى آلة عملاقة لتوليد الضحك.
فكّرت بكل تراجيديات العالم، في المواكب الجنائزية، في أشكال الفزع الهيتشكوكية، في الراحلين من أحبائي، ولكن لاشيء كان يجعلني أتوقف عن التفكير بمصارع سومو يزاول الغناء.
وصارت تتقدّم بين الطاولات وكأنها تسحب خلفها جيشا مخبوءا في فستانها حتى بلغت الطاولة التي كنا نتقاسمها، تطلّعتُ في وجوه الصحب، ولم تكن الجدية التي ظهرت عليها وجوههم أو التذمّر التي صار يصلني واضحا من الطاولات المجاورة
 قادران على فعل شيء.
ثم قصدتني باستقامة وكأن هتافا باطنيا كان يدفعها نحوي حتى قبضت على يدي.
يا إلهي، ماذا يمكنني أن أفعل الآن، فلقد كانت يد مصارع حقيقي، وعندما رفعت صوتها الحريري بلغتني رعشة يديها فارتعش جسدي برمّته وانتفض وانفجرت موجات جديدة من هيسيريا الضحك الذي كنت أحاول بأي ثمنٍ أن أكتمه حتى برى جسدي، وما أن أطلقتْ يدي حتى اندفعت من المطعم لا ألوي على شيء...
خرج الأصدقاء في إثري، وعلى حين غرّة انحسرت الموجات، وبدأت تذوب، فاعتذرت بشدة من الرفاق بعد أن فوّتُ عليهم وجبةً فاخرة، فلم يكن في نيّتي أن أكون تلك الظاهرة التي لا تحدث إلا في أحايين نادرة وتكون مادة لحكايات طويلة ومزمنة.
قال نيفل وهو يتطلّع متحسراً نحو المطعم لقد أفسدت علينا العشاء يا رجل، فأين سيمكننا العثور على طاولة في هذه الساعة من الليل؟.
 قلت لهم: لم أتمكن من كبح جماح الضحك، لقد خرج مني دون أن أقصده، وكأنه كان كائنا منفصلاً لا يصغي إليّ أبدا، ولكن لا باس، أتحمّل كل ما يترتب على ذلك
 وأنهينا تلك الليلة في أحد المطاعم المكسيكية بعد أن تأكدنا أنه خالٍ من مصارع سومو بصوت سوبرانو.
أوبرا 2
بعد سنوات على تلك الحادثة التحقت بالمجمع الثقافي في أبوظبي، مديراً للثقافة والفنون،
 فشرعت في تنشيط الفعاليات الثقافية على اختلافها وتنوعها.
وعندما أصبحت أميناً عاماً للمجمع الثقافي وكان ذلك وفي عام 1990م، شغلت منصب الأمين العام للمجمع الثقافي، فبادرت بدعوة (نيفيل) للحضور إلى أبو ظبي وزيارتنا في المجمع، فناله العجب، فكيف برجل مثلي تخرج في الرياضيات والاقتصاد أن يرتبط عمله بمؤسسة ثقافية فنية.
صار يتجوّل في أروقة المجمّع، وما أن اكتشف وجود آلة بيانو من نوع (شتاين وي) حتى هاله الأمر وراعه ولم يجد ما يقوله سوى التحديق بي وبالبيانو في متوالية رياضية .
ولقد اتسع ذهوله ونفض في روحه ألف مكمن للدهشة كان عندما حضر عرضا للأوبرا في المجمع، كان يصغي إلى السبرانو وهو يحدّق بي منتظرا أن أستجمع مرة أخرى تلك الضحكة الهستيرية لأطلقها كما فعلت في تلك الأمسية البعيدة.
وعندما خاب رجاؤه، تطلّع في عينيّ برهة وقال: أتتذكر تلك الأمسية في مطعم مالدنادوس؟
 ثم أردف سريعا: هذا هو جزاء فعلتك في تلك الأمسية، لن أتمنى لك شيئا أكثر مما أنت فيه الآن، وياله من جزاء يا محمد.. ياله من جزاء.

Friday, December 2, 2016

«رحلة إلى الإمارات: خواطر وارتسامات» لــ «سليمان القرشي»*

 
*جزء من رحلة للدكتور سليمان القرشي، الذي شارك مع د. سعيد الفاضلي في تحقيق الرحلة العياشية والتي نشرتها دار السويدي للنشر في مجلدين كبيرين قبل بضعة أعوام. وكان القرشي قد فاز بجائزة ابن بطوطة لأفضل عمل محقق في أدب الرحلات عام 2002 .
«كنت حريصاً على ارتداء الزي التقليدي المغربي، أثناء حفل تسلم جائزة ابن بطوطة، ولعل هذا ما جعل السيد سفير المملكة المغربية يتعرف عليّ بسهولة؛ ليهنأني بدبلوماسية رفيعة ولباقة عالية على الجائزة، وليسألني بعدها عن شخصي ومشاريعي المستقبلية في مجال البحث والدراسة.
ولقد استوقفني هذا عند علاقة الزيّ بالهويةظن وتساءلت للحين عن مصير اللباس في ظل العولمة!. كما أنّ روح صديقي الراحل الدكتور/ سعيد الفاضلي كانت تتأبطني، أحسست بها بقوة، واحترمت وجودها، وأعلنته للجميع من خلال الحديث المسهب عنه.
في دارة السويدي، وبحضور جمهور نوعي، تم الحديث أولاً عن مشروع #ارتياد_الآفاق وبرامجه وآفاق عمله، قبل أن يتم تسليمنا الجائزة، وخلال الكلمة التي أعطيت لي بالمناسبة، تحدثت كما يتحدث جميع المثقفين حين تتاح لهم الفرصة، طلبات وأمنيات وأحلام ومشاريع تتدفق مسابقة الزمن.
وأنا أتجول ببصري في رحاب الإقامة الودودة للسويدي، وأستمتع بدفء الحضور وحرارة الاستقبال، رددت بيت الشاعر الأندلسي الأعمى المخزومي بشيء من التحوير والتدوير:
"دار السويدي زي أم دار رضوان ما تشتهي النفس فيها حاضر دان".
كانت مداخلتي مبرمجة ثانية في اليوم المخصص لتقديم الأعمال الفائزة بجائزة ابن بطوطة للأدب الجغرافي بعد مداخلة الأستاذ/ شاكر لعيبي، كان وصولنا إلى #المجمع_الثقافي قبل الجميع، وخلال الهامش الزمني الذي سبق انطلاق الندوة عملنا على اكتشاف أروقة المجمع الزاهية وأجنحته الباهية، حيث تستعيد القراءة طقوسها المقدسة، ويغدو الجمال محتضنا لجميع الحواس، بحث شاكر لعيبي خلال هذه الجولة القصيرة عن مكان ليطلق فيه لسيجارته العنان، فلم يكن غير مدخل البناية العملاق حلبة لهذا التجاذب بين الإنسان والدخان، وفيما راح الدخان يسرح بحرية في الفضاء، كنت أسترجع العناوين الصادرة عن المجمع، وأستحضر من خلالها فعل الكتابة الأندلسي وفعل التحقيق المغربي وفعل الطباعة والإخراج المشرقي، تزاوج علمي رصين أثمر مجموعة من العناوين التي اتخذت حللاً زاهية تليق بمكانة الكتاب العربي وتحببه للقراء المفتقدين.
وفيما كانت صرامة الشاعر / نوري الجراح وهو يسير الجلسة تقف حاجزاً دون أسئلة عبد الله الحبشي التي أمطرت في اتجاه شاكر لعيبي، كنت أبحث عن الشاعر الموريتاني/ محمد ولد عبدي؛ لأجيبه عن سؤال حول مدى تأثير المذهب المالكي في تشكيل نظرة أبي سالم العياشي ـ صاحب الرحلة التي قمت بتحقيقهاـ لأهل المدينة المنورة، ولكنه اختفى عن الأنظار فجأة ليظهر ثانية في جلسة المساء ونحن في المصعد المؤدي لقاعة العروض، حاصرته بأسئلتي حول المجمع وطريقة عمله وبرامجه وكيفية التعامل معه وإمكانية النشر فيه...، والسبحة في يده، كان يجيب عن أسئلتي بلباقته المعهودة وصبره الصبور… وعلى أنغام خليجية انطلقت بنا سيارته في المساء لاكتشاف زوايا #أبوظبي، شدني الكورنيش ببهاء أضوائه ولطف أجوائه، أثارني ما ارتسم على صفحة المياه من أضواء، فيما اصطفت بنظام وانتظام على الجانب الآخر أبراج مشيدة تبدو حديثة العهد، وبمطعم لبناني فاخر كان تناولنا للكباب المشكل والتبولة وأكلات أخرى لبنانية كثرت فيها البهارات، وامتزجت فيها الروائح التي تذكر بشرق ألف ليلة وليلة.
انطلقت بنا السيارة بسرعة نحول #جبل_داد الذي حرص الشاعر #محمد_أحمد_السويدي على أن نقوم بزيارته، لدى خروجنا من أبو ظبي كانت معالم الصحراء تظهر تارة وتختفي أخرى، وانطلق صوت بالغناء، كان غناءً عراقياً شد بمواويله انتباه الجميع، وفيما ردد الكل مقاطع معروفة لفيروز، رحت والطائع الحداوي نردد مقاطع من أغنية عبد الوهاب الدكالي:
" ما أنا إلا بشر عندي قلب ونظر..."
لم يتجاوب معنا غير نوري الجراح، بينما راح علي كنعان ينظر نحونا وابتسامته تعلن عما يجول بخاطره من أسئلة عما نقو .. ، فيما راح الصحافي/ أحمد حيدري، يسألني عن كلمات الأغنية كلمة كلمة، ويسأل عن معرفتنا بالأغنية الإيرانية، وعاد الحديث معه مرة أخرى للموضوع ونحن بالشقة التي احتضنته فيها غرفة من غرفها الخمسة.
كان بيت الشاعر العربي طرفة بن العبد:
كَأَنَّ حُدوجَ المالِكيَّةِ غُدوَةً ** خَلايا سَفينٍ بِالنَواصِفِ مِن دَدِ
مؤثراً بشكل كبير في زيارتنا لجبل داد، ونحن الذين ألفنا الجبال وعلوها في المغرب ماذا سنكتشف من جديد هنا ؟.
كانت المدة الزمنية لبلوغ هدف الرحلة تتعدى الساعات الثلاث، لا أخفي قارئ هذه الورقات سراً إذا قلت إني حييت في شاعرنا العربي روحه الشاعرة المرهفة وتخليده شعرياً لهذا المكان أو لنظيره وهو الذي لم يكد يلامس في أحاسيسي شيئاً يذكر ... تذكرت بحثا لي عن علاقة الشعر العربي بالمكان، تذكرت كذلك أني لم أتمم الدراسة، فقر عزمي أن أعود إليها وأستثمر فيها شعر السويدي لكني خجلت أن أسأله إعطائي بعضاً من شعره، فكرم الرجل غمرنا، والمثل الدارج عندنا في المغرب يقول: إذا كان حبيبك عسل لا تلعقه كله.
كثيراً ما كنت أقرأ على مطبوعات مشروع ارتياد الآفاق عبارة "الصف الضوئي:#القرية_الإلكترونية"، فيذهب بي الخيال تحت تأثير الاسم إلى قرية كاملة مخصصة للمشروع، قرية من قبيل القرية السياحية أو القرية النموذجية أو القرية الرياضية أو غيرها من القرى التي نسمع عنها بين الحين والآخر، ولكن قريتنا هذه كانت شقة في برج لعله من الأبراج الأولى في أبو ظبي، شقة تضم أربع حجرات بمكاتب متعددة يشتغل فيها ما لا يزيد عن ستة أشخاص، أيمن حجازي الذي كان ودوداً للغاية، وناصر الذي رسم لي صورة بقلمه في أقل من خمس دقائق، ومحسن خالد الذي يذكرني دائما بشخوص الطيب صالح الروائية، هل لأنه سوادني الجنسية؟. ربما... والذي اختفى بدون مقدمات ولم أره إلا مرة واحدة أثناء مراسيم تسليم الجوائز... ومنذر الذي يتحرك باستمرار ويحرص على ضبط الأمور وتسجيل المواعيد في هاتفه النقال المتعدد الاختصاصات، والمايسترو نوري الجراح، هذه هي #القرية_الإلكترونية التي أخرجت عشرات الرحلات، وهذا هو الطاقم المشرف على هذا المشروع العربي الرائد، تحية إجلال وإكبار لهذه المجموعة التي عانت من أسئلتنا الملحاحة والكثيرة التي لا تحترم وقتاً ولا تراعي غير أنانيتنا الأدبية الضيقة... هنيئاً للشاعر/ محمد أحمد السويدي الذي وفق في إدارة خلية النحل هذه.
د. سليمان قرشي
باحث مغربي، دكتوراة في الأدب العربي
جامعة محمد الخامس بالرباط .