Sunday, May 7, 2017

بقعة حبر وذكرى عزيزة


 
http://www.electronicvillage.org/mohammedsuwaidi_publications_indetail.php?articleid=601

كان قد مرّ نحو ساعةٍ على انعقاد مجلس الأربعاء، عندما انتبهت إلى وجود لطخة حبرٍ على ثوبي، فقلت لهم أن يأتوا إليّ بثوبٍ جديد.
فقال أخي سالم وقد أخذت سحنته هيئة ابتسامة ممزوجة ببعض التفكّر: ولماذا الثوب الجديد، فثوبك زانته بقعة الحبر، ثم أردف: دلفت ذات يوم إلى مكتبٍ فيه فتيات وقد خضّبن أناملهنّ وأكفّهن بالحناء ابتهاجا بالعيد، فكان لذلك عليّ وقع السحر الحلال، وقد زادهنّ الحناء جمالاً على جمال، أما الفتاة التي لمحتها وقد خضّب كفّها الحبر فقد سلبت لبّي، الحبر زينة من نوع آخر، ولا أكتمك أنني اشعر برهبةٍ كلّما رأيت محبرةً، ولا أعرف سبباً لذلك.
فقلت: لعلّ لرهبتك ما يبرّرها، فالمخلوقات جميعا كُتبت بحبرٍ أمينيٍّ.
فالأحماض الامينيّة هي اللغة، أو الحروف التي كتبت بها أبجدية الخلق، وهي أربعة حروف، الألف (اسم الجلالة)، والجيم (جبّار)،
والتا (توّاب)، والسين (سميع)، بهذه الحروف كتبت البكتيريا والنخلة والضفدعة والحصان والإنسان.
أمّا المخلوقات ذاتها فهي كالنهر المنحدر من الماضي السحيق إلى المستقبل اللانهائيّ، وما يخُلّد الإنسان في هذه الرحلة الطويلة يكمن
فيما يخطّه من مداد.
ثم قلت: يا سالم، المحبرة أو الدواة كما ترد تسميتها في كتبنا هي سرّ من أسرار الوجود، أما الرهبة التي تنتابك فهي بلا ريب رهبة
الشاعر وهو يتلمّس مداده الحيّ أو وهو يحاول أن يقبض على سرّ خلوده.
ثمّ ذكرت لروّاد المجلس أنني ذات صباحٍ رومانيّ شعرت بحاجةٍ غامضةٍ لشراء قلمٍ، كانت حاجة داخلية لم أسع إلى تفسيرها، لأقبض
على قلمٍ، قلمٍ رأيته بخاطر الغيب، وربما لأنني تذكّرت أن ابن سيرين كتب في تفسير القلم : القلم إنسان.
أو ربما لأنه أول ما خلق الله بحسب الميثيولوجيا التي وصلتنا عن أسلافنا عندما قالوا: أوّل ما خلق الله، خلق القلم، وقال له اجر،
فجرى تلك الساعة بما هو كائن حتى قيام الساعة..
فقصدت وصاحبي محلّ بولغاري ووجدت القلم في انتظاري، كان نداءً خفيّاً ذلك الذي قادني إليه، فاقتنيته، وذهبنا إلى محلّ مثلّجات
شهير في روما اسمه (جولييتا) وانتبذنا طاولة في أقصى المكان تفاديا لطابور المنتظرين الذي بدا لي من فرط اكتظاظه وكأنه يتناسل
بلا انقطاع.
وبعد أن فرغنا ذهبنا في جولة على ضفاف نهر (التيبر) الذي ينبع من جبال توسكان ويجري مسافة 450 كم قبل أن يصبّ في البحر
المتوسط.
ثم تنبّهت إلى أنني لم أعد أحمل الكيس معي، فسألت صاحبي الذي لم يكن يحمله أيضا، فقال: ربما تركناه في محلّ المثلّجات.
فعدنا أدراجنا إليه، فهو لم يعد محض قلم يمكن ابتياع غيره، وإنّما قلم هتف بي وهتفت به، وتراءى لي في خاطر الغيب، وكنت قد
قطعت الأمل في العثور عليه، فمن يعرف #روما يدرك أنها «تسرق الكحل من العيون».
قصدنا طاولتنا، فكانت صفصفاً، فتضاءل أملي وزاد شعوري بالفقدان، وبينما كنت أبذل آخر محاولة في النظر هنا وهناك، قصد
صاحبي مكتب المحاسبة التي اصطفّت من حولها الجموع، وأخبرها أننا نبحث عن قلم في كيس، فسألته المحاسبة وهي تنقّل بصرها
بين صاحبي وأزرار آلتها الحاسبة: وما لونه؟
فقال صاحبي: أزرق
انحنت المحاسبة، وأخرجت الكيس، فتناهى إلى سمعي هتافه الباطني، فلقد ألفتُ هذا القلم وألفني، إلى أن ألمّت به واحدة من علل
الأقلام، فأخذ ينفث الحبر، ولطالما كنت أجد ثيابي وقد بقّعها بقيئه، وبعد أن تكرّر الأمر، اضطررت إلى استبداله بقلمٍ آخر ، ولكنني
احتفظت به ولم ازل، فهو أثير على نفسي ولم يفقد حظوته عندي منذ أن ارتبطنا بذكرى عزيزة.

No comments:

Post a Comment