Saturday, May 13, 2017

أمبواز- محطّة ليوناردو الأخيرة


http://www.electronicvillage.org/mohammedsuwaidi_publications_indetail.php?articleid=615

«أمبواز- محطّة ليوناردو الأخيرة»
(1)
كنا في سعد الذابح، عندما عقدنا العزم للوقوف على محطة #ليوناردو_دافنشي الأخيرة في «أمبواز»، حيث اختتم هناك عمله الكبير "كودكس أتلانتك".
إنّه المكان الذي كتب فيه آخر مدوّناته بمداد أشبه بمداد البحر، كان يجلس إلى طاولة في مختبره بقصره الكبير، يعكف على حلّ معضلة في علم الهندسة عندما انتهى إليه صوت الخادمة "ماثورين" تناديه: «شوربة الخضار ستبرد»، فكتب جملته الأخيرة قبل أن يضع القلم: (اسّترا (الخ).. بيرشي لا منسترا سي فريدّا أي: الخ.. لأن الشوربة -شوربة الخضار- ستبرد).
في الطريق .. خضنا حديثاً مطوّلاً مع دليلتنا البولنديّة "جابرييلا" عن تاريخ #فرنسا وذلك الزمن الذي جمع الملك "فرانسوا الأول" مع ليوناردو دافنشي، انتقلنا عبر الأزمنة إلى سنين الجنون (آني فولي) كما سمّاها أرنست همنغواي والزمن الجميل (آني بوك) كما سمّاها من بعده.
قالت الدليلة: «شعر الناس بالفرح والحريّة بعدما وضعت الحرب العالميّة الأولى أوزارها، فالملكيّة صارت طيّ النسيان، وسُلطة الدين صارت خبراً بعد عين، وانتعش الإقتصاد في فرنسا فجذبت البلد بمزاجها الجديد الفنانون والأدباء من كلّ فجّ عميق، جاءها بيكاسو، وارنست همنغواي، وفان جوخ، ومودلياني، وهنري ميلر، وانييس نن، وعشرات آخرين جاءوا يتنفسّون أكسجين الحريّة». قالت الدليلة: «اثنتين وعشرون لوحة كل ما أنجزه ليوناردو، لم يتبق منها سوى خمسة عشر، ثلاثة منها اقتناها الملك فرانسوا، وأرسل في أثر "ميلزي" وهو أحد تلامذة دافنشي ليشتري منه اللوحة الرابعة، والتي كان ميلزي - الشيطان- كما يسمّيه دافنشي يبيع نسخا منها مزوّرة، بدا نهر لوار أمامنا مهيباً، فقالت الدليلة: «يبدأ هذا النهر بأذرع متفرقة صغيرة، وعندما يبلغ أورلين يكبر ويتمدّد ويشتدّ زنده فنقول عنه: إنّه نهر ملكيّ، وهو يربط فرنسا بالمحيط الأطلنطي، ومنه أغار الفايكنج على فرنسا مراراً».
كنت قد سالت دليلتنا في أفنيون (الباريسيّة التي هجرت العاصمة) في زيارة سابقة عن أحبّ ما يشغل أهل افنيون من حديث فردّت على الفور: «الطعام والمائدة». فذكرت ذلك لجابرييلا فوافقت وقالت مضيفة: «عندما أعتزم السفر إلى الجنوب يقولون لي: ستأكلين جيّداً». سألتُ ونحن نقترب من "بوتييه" عن المسافة بينها وبين #أمبواز وقد بدت قريبة على خريطة "جوجل" في هاتفي، فقال جوليان -السائق- إنها بعيدة، وسأل هو والدليلة معاً: ولماذا بوتييه؟. فقلتُ: «أريد ان أرى أين بلغ #العرب في فتوحاتهم».. فقال صاحبي: «لم تقع #بلاط_الشهداء في بوتييه، ولكن في مكان بينها وبين تور (توغ)».
وأضاف: «إن هناك أسطورة محليّة ساخرة تقول أنّ الجبن اللواري الذائع الصيت هو متحدّر من أجبان سلالة الأغنام التي خلّفتها فلول العرب المهزومين». قال جوليان: «ولدت قريباً من بوتييه، والناس هناك طيّبون على سجيّتهم، وهم يختلفون كما في كلّ دول العالم عن سكّان العاصمة».
كانت السماء تنهمر بقوّة عندما قالت جابرييلا أن أمبواز مكان كالتميمة التي تهدئ من صخب الطبيعة وجنونها، فلمّا تضطرب الأجواء في شمال فرنسا وجنوبها يكون السكون نصيب أمبوازا، ما أن فرغت من جملتها حتّى كاد وقع كلماتها على السحب الداكنة الماطرة كوقع عصا موسى وهو يفلق البحر، توقف المطر وانقشعت الغيوم، وبان وجه الشمس. راح جوليان يتقصّى أثر قوس قزح، فسألتُ جابرييلا وجوليان عمّا يعنيه قزح في موروثهما فأجابا: «لا شيء».. فقلت في نفسي لقد أفسد #نيوتن على الغرب الخرافة التي يتمتّع بها الشرق، ففي الموروث الشعبي أنّ من يبلغ مصدر قوس قزح يجد كنزاً عظيماً هناك.
قالت دليلتنا: فرنسا بلد محظوظ تحفّه ثلاثة، البحر الأبيض المتوسط والأطلنطي وبحر الشمال، وبه الجبال والوديان والأنهار والخضرة والفاكهة والأنبذة الطيّبة والأجبان، وتنازع هذه القائمة التي لا تنتهي من الطيّبات أقاليمها بوردو، واللوار، وبورجندي، والرون في الجنوب، وشامبين في الشمال، وبريتاني في الجنوب الغربي، والقائمة بالأسماء تفيض.
وصلنا أمبواز وبدت بعد عاصفة المطر بهيّة نظيفة، فتناولنا وجبة غداء خفيفة في مطعم "لي أمبوازيري"، كان الدجاج رائعاً، ولكن القهوة رديئة، فيما كانت فرقة الإيجلز الأمريكيّة تصدح بأغنية "هوتيل كاليفورنيا الشهيرة".
لا يتجاوز سكّان أمبواز ثلاثة عشر ألف نسمة، انقلب الجوّ من جديد وعصفت الريح فقادتنا أقدامنا إلى كنيسة صغيرة في قلعة أمبواز أشبه بالمصلى، شعرنا بشيء من الدفء داخل المصلّى، ذهبت أتوجّس خيفة ما في الزاوية التي اجتمع عليها الناس، فرأيت قبر ليوناردو دافنشي، قالت الدليلة التي أدركتي بعد وهلة من الزمن: دفن ليوناردو في كنيسة أكبر في هذا القصر ولكنّها لم تعد موجودة اليوم، فلقد هدم ونهب الثوّار كل ماله علاقة بالملوك ورجالات الدين، وكثير من القصور والكنائس وما كانت تحويه من نفائس وذخائر نهب كذلك، ولكنّ رفاتاً يعتقد أنّه لدافنشي حمل إلى هذه البقعة، فسألتها إن كان ثمّة اختبار تعرّضت له هذا الرفات للتثبت من هويّة صاحبها، فقالت ليس هناك عقباً لدافنشي لعمل المقارنة.
تجوّلنا في قصر الملك #فرانسوا فلمحت تمثالاً فقالت جابرييلا على الفور هذا هو تمثال الملك فرانسوا الأول تستطيع التعرّف عليه من أنفه الطويل، نشأ الملك فرانسوا الأول يتيماً في هذا القصر (الشاتو) الكبير ذي الأربعمائة غرفة، وفيه التقى ليوناردو دافنشي وأعجب بأفكاره وشعر أنه بمنزلة والده.
رأيت أيضاً صورة للأمير #عبدالقادر_الجزائري، فحكت الدليلة أن القائد الفرنسي #دوفامال كان على وشك الإتفاق لاستقدام الأمير ليقيم في القصر معززاً بقيّة حياته عندما قامت الثورة الفرنسيّة، ولكن الأمر انتهى بترحيل الأمير إلى سوريا. كانت اللوحة الجداريّة للقائد الفرنسي تراقب عن كثب حركات الأمير الجزائري وتقبض عليه، لقد فات دوفامال أن #الجزائر قد حرّرها الثوّار من قبضة #فرنسا إلى الأبد.
وللحديث بقيّة.

No comments:

Post a Comment